الهجرة النبوية كانت ولا تزال منبعًا خصبًا نستقي منه حين نمر عليها المزيد والكثير، ونستفيد منها دروسا وعبرا تربوية كثيرة كلما طالعنا صفحاتها.
ومن أبرز أحداثها، عظمة الدور الذي لعبته أسرة أبو بكر الصديق؛ فهذا رب الأسرة يخرج مع الرسول حاملًا كل ماله دون أن يترك شيئا لأهل بيته، وهذا ابنه يخاطر بحياته من أجل نقل أخبار معسكر الشرك لرسول الله، وهذه ابنته _أسماء ذات النطاقين_ تلعب دورًا كبيرًا في الهجرة على الرغم من أنها حامل في الشهور الأخيرة.
ورد على لسان السيدة عائشة وهي تصف حال أبيها _أبوبكر_ عندما أخبره الرسول بالاستعداد للهجرة، قالت “لقد رأيت أبا بكر عندها يبكي من الفرح” ثم قالت عائشة رضي الله عنها: “فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي”.
خرج أبوبكر بكل ماله مهاجرًا مع رسول الله، فتروي السيدة أسماء بنت أبي بكر أن جدها أبا قحافة دخل عليهم وكان قد فقد بصره وقال لهم: “والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه”، ويعنى بذلك أنه تركهم بلا شيء فكان الرد الذكي من ابنته السيدة أسماء، قالت :”كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، فأخذتُ أحجارًا فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعتُ عليها ثوبًا، ثم أخذتُ بيد جدي فقلت: يا أبت.. ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن”.
وقبل أن يسأل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصديق رضي الله عنه يقول: “فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ”، الراحلة: الاسم الذين يطلقونه على وسائل الانتقال من الحيوانات في ذلك الوقت.
واتفق الاثنان على استئجار دليلٍ لهما ليرشدهما في رحلتهما إلى المدينة المنورة وقد كان دليلهما في ذلك عبد الله بن أريقط وكان غير مسلم في ذلك الوقت ولكنه كان أمينًا للسر كاتمًا له، ولا شك أنه أخذ المال الكثير ليوافق على هذه المهمة، ولا يخفى عن ناظربنا أمران، الأول: أن أبا بكر على الأرجح قد شارك في تمويل ذلك الرجل بجزء من ماله، والأمر الثانى: حسن اختيار النبي وأبي بكر لهذا الرجل، فلو رآه أحد من المشركين في الصحراء أثناء تعقبهم للنبي وصاحبه الصديق ما شك فيه؛ لأنه شخص منهم.
ثم كانت الخطوة التالية: الذهاب إلى غار ثور وهو غار غير مأمون وغير مؤهل للسكن، وذهبا للغار للبقاء فيه بعيدًا عن أنظار وجهاء قبيلة قريش المتعقبون لهم. واتفقا على البقاء في الغار ثلاثة أيام على أن يتركا الراحلتين مع عبد الله ابن أريقط على أن يقابلهم عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
وكان الصديق حريصًا منذ إسلامه على عتق الكثير من الناس الذين كانوا يعذَّبون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله وبالنبي ولا ظهر لهم لحمايتهم، فكان أبو بكر ظهرًا وسندًا لهم في محنتهم وكان من هؤلاء عامر بن فهيرة، الذي أعتقه أبوبكر الصديق ثم صار مولى لهـ وقد لعب ذلك الرجل دورًا كبيرًا في الهجرة النبوية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام النبي والصديق، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
وإذ كان عامر يخفي آثار أقدامهم من المشركين فكيف يتسنى للرسول وصاحبه معرفة أخبار قريش؟ لعب هذا الدور الاستخباراتى العظيم عبد الله بن أبوبكر فكان يتجول بين المشركين ليعرف أخبارهم وطريقة تفكيرهم في عرقلة هجرة الرسول إلى المدينة ومحاولة إجهاضها في مهدها وبدايتها، فكان ينقل أخبارهم كل يوم إلى الرسول والصديق ولنا أن نتعجب! من المخاطرة التي أقبل عليها هذا الشاب وهو يعلم أنه لو اكتشف أحد أمره لكان مصيره خطيرا قد يصل إلى الموت تحت وطأة التعذيب، ولكنّ دهشتنا تزول إذا كان ذلك الرجل ابنًا للصديق _أبوبكر_ الذي أحسن تربيته وجنى ثمرتها الآن، وما أعظم تلك الثمرات التي تلعب دورها وقت الشدائد!
ويبقى السؤال، من يمد الرسول وصديقه أبوبكر بالطعام والشراب خلال فترة إقامتهم بالغار؟ لعب هذا الدور العظيم امرأة من بيت الصديق هي أسماء بنت أبوبكر والتى سميت بـ (ذات النطاقين).
وقد كانت حامًلا في الشهور الأخيرة ولك أن تتخيل ما تعانيه المرأة في تلك الشهور من مصاعب جمة! ورغم كل ذلك لم تضعف عزيمتها فكانت تتحمل مشقة الطريق وحرارة الجو في الصحراء وصعود الجبل الصعب الذى به غار حراء، فعلت ذلك بشكل متواصل ثلاثة أيام كاملة دون كلل أو ملل.
وفي اليوم الأخير في الغار كان عليها إعداد غذاء وفير وشراب كثير؛ ليكفي الرسول وأبا بكر في طريق هجرتهم إلى المدينة، ووصفت لنا أسماء بنت أبي بكر ذلك قائلة:
“حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما “صنعت سفرة للنبي، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرة السفرة”
وروي أن النبي قال لها حين فعلت ذلك : أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة. فقيل لها: (ذات النطاقين)، تلك المرأة أيضًا تحملت لطمة شديدة على وجهها وهى حامل، وذلك بعد أن انتشر خبر خروج النبى للهجرة، ذهب أبو جهل إلى بيت الصديق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: “أين أبوك يا بنت أبي بكر؟” قالت: ”لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها”.
كان من الممكن أن تعترف أسماء تحت وطأة الضربة القوية ولكنها كانت صلبة وقوية في مواجهة هذه الأحداث، فثبتت حتى هاجرت إلى المدينة وهناك وضعت طفلها وكان عبد الله بن الزبير والتى ترجح معظم الروايات أنه كان أول مولود للمهاجرين بالمدينة المنورة.
.