الإسلام دين واقعي، تملؤه الحيوية والنضرة، ويدفع دوما نحو الحقيقة والواقعية، ويطلب تجريد الخيال وسمو الفكر ونقاء الإرادة والإخلاص في العمل والتطبيق.
كما يطلب علاقة مباشرة بين العبد وربه، بلا وسائط ولا مقدمات، ولاخيال موهوم يأمر الناس بالتمسك به، ولا صور ولا أصنام، ولاهياكل ولا سدنة ولا كهان، إنه يطلب مستوى من الفكر والاعتقاد لا يتصور أن تبلغ الإنسانية له مثيلا ولا النظم الدينية له قريبا أو شبيها.
إنه يبني منظومة العقيدة الفريدة في قلوب أتباعه انطلاقا من قلوبهم ليسلكوا بشعائرهم معنى قد أيقنوا به من قوله تعالى "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب".
وفى هذه الدراسة، يحاول الدكتور خالد رُوشه، الباحث والمفكر التربوي والاجتماعي، أن يعرض لبعض القيم التربوية في مفهوم ربانية الحج.
شعائر الله..حكمة بالغة
شاء الله أن يختار لدينه شعائر ومظاهر، تدل على دينه، وترتبط في ذكرها بذكره، ويرتبط بها وقائع وأحداث وأفعال وأحوال، فتذكر بأيام الله وآلائه، ودينه وتوحيده وحسن بلاء أنبيائه، وسماها "شعائر الله" وجعل تعظيمها دليلا على تعظيم دينه والتفريط فيها تفريطا في مرضاته.
الإنسان المؤمن ليس عقلاً مجرداً، ولا كائناً جامداً، ولا تركيباً صامتاً، إنه عقل وقلب، إيمان وعاطفة، قناعة وتأثر، وفي ذلك سر من أسرار شرفه وكرامته، وتفانيه وتضحيته، ومن استطاع أن يسيطر على عواطفه وأشبع بها عقله، استطاع أن يوجهه ويقوده ويأسره.
فأنت ترى أن الله سبحانه، وهو العليم الخبير، الذي يعلم خلقه تمام العلم ويعرفهم كامل المعرفة، لم يجعل صلة العبد المؤمن بربه صلة جامدة عقلية مجردة، ولم يجعلها كذلك قائمة على خضوع وقوانين ومحددات حسابية جافة، إنما هي صلة حب وتفان ورغبة، صلة تحمل على البكاء رغبة وشوقا.. وتحمل على بذل النفس حباً وكرامة، قال الله تعالى: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:24).
والمؤمن دائماً فقير إلى غذاء قلبه أكثر مما هو فقير إلى غذاء جسده، وهو محتاج دائما إلى أن يقضي شوقه، ويبث حنينه، ويعرب عن حبه.
وانظر إلى كيف يرغب القرآن والسنة في ارتياد الأماكن الطاهرة التي يذكر فيها المرء ربه، ويناجيه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المسجد بيت كل تقي"، وفي صحيح مسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله "ورجل قلبه معلق بالمساجد".
يقول الغزالي: فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة، والبيت مضاف إلى الله، فالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل".
ويقول: "ووضعه – أي البيت – على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثاً غبراً، متواضعين لرب العالمين، ومستكينين له، خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزيهه وتقديسه _سبحانه_، لذا فقد وظف عليهم أعمالاً لا تأنس إليها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول؛ كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل تلك الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية".
لبيك بحجة حقاً.. تعبداً ورقاً
يقول القاسمي: إذا اقتضت حكمة الله تعالى ربط نجاة الخلق بالانقياد وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه كلها أبلغ في تزكية النفس إذ عليها فيه الانقياد والطاعة، وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق.
لذا كان تعظيم شعائر الله تعالى بإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها؛ يقول ابن القيم: "وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة [يعني: الكعبة] حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا".
تسليم كامل.. وانقياد فياض
إن المؤمن بحاجة دائماً إلى تذكير نفسه وترويض عقله على التسليم والانقياد، كما قال سبحانه: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء:65).
والحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإنّ ذاك السفر وذاك التنقل بين الأماكن ثم الطواف حول البيت، ورمي الجمار، ثم الحلق والذبح وغيره، كل ذلك نماذج تطبيقية للتحقيق العملي لمعنى التسليم حيث يقوم المؤمن بذلك في سعادة غامرة وإقبال فياض.
وانظر إلى عمـر وهو يتفهم هذا المعنى بجلاء، فيقول عن الحجـر الأسود: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك".
يقول الحافظ ابن حجر: "وفي قول عمر هذا التسليم للشارع فـي أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه" (فتح الباري).
ويقول ابن القيم: "إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها بها، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ، وأذعنت" (الصواعق المرسلة).
نهل بالتوحيد
لقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يستهل المؤمن حجه بالتلبية رافعاً لواء التوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- راوي حديث حجة الوداع "ثم أهل – يعنى النبي صلى الله عليه وسلم – بالتوحيد"، ومن أجل التذكير بذلك وتحقيقه فقد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف. بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص "قل هو الله أحد"، و"قل يا أيها الكافرون"، كما كان يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم.
كما شَرعَ له التهليل عند صعود الصفا والمروة كذلك بالتوحيد، بقول: «لا إله إلا الله، والله أكـبـر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وأن يقول يوم عرفه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير».
إنهم هناك في أيام المشاعر المعظمة، تجتمع هممهم، وتتجرد للطاعة والابتهال قلوبهم، وترتفع إليه سبحانه أيديهم وتمتد إليه أعناقهم وتشخص نحو السماء أبصارهم، مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والغفران.
فلا ثم منفعة شخصية دنيوية، ولا رغبة مال أو متاع، ولكن رجاء ألا يخيب الله منهم الظنون ويقبل منهم السعي، ويفيض عليهم من رحماته ورضوانه، فهل ترى يكون هناك خلق بغيض لمن صدق؟ أو سوء سلوك لمن أخلص؟ كيف وهم يحلون بمواضع لم يزل الصالحون يعظمونها ويحلون فيها ويعمرونها بذكر الله، والملائكة يتنزلون من حولهم بكل موضع.
فاللباس الأبيض المشابه للكفن، الذي يستوي فيه الجميع غنيهم وفقيرهم عزيزهم وذليلهم هو علامة التواضع وشارة التسوية ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من ترك اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حُلل الإيمان أيها شاء"، فلا مكان إذن للخيلاء ولا للزينة ولا للفخر ولا للزخرف تطبيقا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد".
وهم فوق ذلك في مدرسة للتربية على العفو والصفح، والنسيان والغفران، والتغاضي عن الزلات، قال تعالى: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ"، فهم يذكرون قول الله تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" وذكر الله من صفات المؤمنين بقوله: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". وقوله: "إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ"، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ".
وقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - عندما سئلت عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "لم يكن فاحشاً ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح "، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كتم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين فيزوجه منها ما شاء".
إحياء الثورة.. وتجديد الفكرة
إنه عرضة سنوية للملة الحنيفية، تعمد بقاءه وترفع أصالته، فمهما حورب هذا الدين ومهما قوتلت هذه الثورة، فالإسلام باق، والقرآن باق، ولباس الحج الأبيض يحيط بموروثات تلك الشريعة الربانية، فبوجود تلك المؤسسة العظيمة تبقى هذه الأمة عبر الأجيال رافعة نبراسها، خفاقة أعلامها، محتفظة بطبيعتها، مهما ادعى المدعون تغير الزمان وتبدل الأحوال، فهو ذات المنظر الذي حج به هادي البشرية منذ مئات السنين، وحوله حواريوه وربانيوه، فلتبق هذه الأمة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية العطوف الرءوم، الثائرة القوية، تتوارثها الأجيال فلكأنها القلب الحي الفياض الذي يضخ الدم كل عام في شرايين ذلك المجتمع مترامي الأطراف.
ولاء وبراء
ومهما تفرقت لبنات الأمة أو تشرزمت جماعاتها، فالحج يجمع الشمل، وينمي الولاء ويعيد الحب ويدعو إلى النصرة، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون مناسك واحدة.
كما أن فـي الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق، وبذل الـمعروف.. كما أن فيه ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛ يقول ابن القيم: "استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك".
لقد لبى النبي - صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخـالـفـاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس، فخالفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوى الجاهلية كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع"، يقول ابن تيمية: "وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل: دعواهم يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم" (اقتضاء الصراط المستقيم).
يا زائرين.. متى نلحق بركب الصالحين؟
عند تذكر حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- نتذكر كيف ذرفت عينا أبي بكر رضي الله عنه لما علم أنها الحجة الأخيرة. وأنه الوقت الموعود.. وأنها أيام الفراق.
فلقد وقف النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يخطب في أمته ويعظ العالمين، وهيبته قد غطت المقام، ودموع أصحابه تذرف وقلوبهم توجل، والميثاق تتنزل كلماته تترا..ليؤذن أنه وحي خالد ودين راسخ.
فيا زائرا مع الزائرين: هل تراك ذكرت أن ربك قد اصطفاك هذه الأيام من دون خلقه ليزداد قربك منه وتضع قدمك موضع سيد الأبرار؟ ويطلع عليك في عرفه، ويباهي بك ملائكته؟ هل تراك وأنت تذرف الدمع الساخن، حمدت الله على النعمة؟ وجددت العهد مع الرحيم؟ ومحوت بالتوبة النصوح زلات السنين؟
ويا أيها الذي لم يقدر له أن يلحق بالزائرين.. متى تخلص في الدعاء ليلحقك بالصالحين؟!!
.