يحكى العلامة د. يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فى كتابه "سيرة ومسيرة" عن موقفٍ حدث له فى طفولته، كان فى ظاهره شراً، ويدعوا للغضب والاكتئاب، ولكن بعد أن مرّ به قطار العمر، اكتشف أن الخير كل الخير فى هذا الموقف الذى حدث من سنوات طويلة.
يقول الشيخ: "بعد أن أنهيت المدرسة الإلزامية، وقبل ذلك ختمت القرآن، دخلت في مرحلة ماذا بعد الكتاب والمدرسة، كان قلبي معلقا بأمر واحد، لا أفكر في غيره، ولا أرضى بديلا عنه، وهو الالتحاق بمعهد طنطا الديني، لأكون أحد طلاب الأزهر، ولكن ھذه الرغبة المشروعة، لم تكن بالأمر السهل أو الهين، فقد كان يقف دونها عقبات وعقبات".
كان الأزھريون المتخرجون في ذلك الزمن مضيعي الحقوق، لا يجدون عملا يتعيشون منه، فهم يتخرجون وينالون الشهادة العالمية، ويحصلون على أحد التخصصات، ويقضي الطالب في ذلك خمسة عشر عاما متواصلة، غير السنوات الاولى التي حفظ فيها القرآن، ثم يعود إلى بلده، ليقعد متعطلا بلا عمل.
أن فرص العمل أمام علماء الأزھر كانت محدودة جدا، فإما أن يعين مدرسا في معاهد الأزھر الدينية، وھذه فيها كفايته، وإما أن يعين إماما وخطيبا في الأوقاف، وكانت المساجد التابعة لها محدودة كذلك، وإما أن يعين واعظا بالأزھر، وھؤلاء عدد محدود في القطر المصري كله.
وقد شاركت في (تنقية الدودة) من القطن، كما شاركت في (جني القطن) وھو عمل شاق، يكون في شدة الحر، ولكني لم أصبر على ھذا العمل الشاق أكثر من ثلاثة أيام وانقطعت عنه، فكل ميسر لما خلق له، ويبدو من تصاريف القدر أني لم أخلق لمثل ذلك.
ومن الوقائع التي حدثت في تلك الفترة حادث مهم، ربما لو تم لغير مجرى حياتي. ذلك أن شركة مصر للغزل والنسيج قد أنشأت مصنعها منذ سنوات قليلة في مدينة المحلة الكبرى بجوارنا، وقد انضم إليها عدد كبير من أبناء القرية، والقرى المحيطة بنا، وأصبحوا يذھبون يوميا إلى المحلة ويعودون عن طريق الدراجات، التي يملكها كل واحد منهم.
وكان من ھؤلاء ابن خالة لي يكبرني بعدة سنوات، ھو عبد الحي الطنطاوي مراد، وقد ظل يغريني، ويغري والدتي بأن أذھب إلى المحلة في يوم معين يطلبون فيه العمال الجدد، ويفرزون الطالبين، وھم كثيرون في العادة، ويختارون بعضھم وفق شروطهم ومواصفاتهم.
وبعد إلحاح من ابن خالتي، ذھبت إلى شركة المحلة، وأنا كاره وخائف أن أكون ممن يقبلون في ھذا المجال، وأتمنى من كل قلبي ألاّ أقبل، وفعلاً جاء الذين يفرزون المتقدمين، ولم أكن واحدا ممنّ اختاروھم، وحمدت الله على ذلك، وإن غضب ابن خالتي علي، وحملني مسؤولية عدم اختياري، والحقيقة أني لم أفعل شيئا، ولكن الله تعالى صرفهم عن اختياري لحكمة يعلمها.
.