Business

الماوردي وآراؤه التربوية الجريئة للمعلم والمتعلم

كان الماوردي عالما وفقيهًا شافعيًّا مجتهدًا، ينهج نهجًا علميًا في أبحاثه إذ يعرض لوجهات النظر المتعارضة والمختلفة في المسألة الواحدة، ويرجح بينها، وينتهي لرأي يرى فيه وجه الحق والصواب، حتى انتهت إليه زعامة الشافعية في عصره.

وانفرد في تفسيره للقرآن الكريم ببعض الاتجاهات التي تدل على أصالته وعمق تفكيره العلمي والتربوي، خاصة في الآيات المتعلقة بمبادئ الشريعة والحكم والسياسة.

وتتميز كتاباته بأسلوب واضح بليغ ينتقي ألفاظه ومعانيه، ويؤلف بينها كأنها شعر منثور. وكان أخلاقيًا في سيرته ومعاملاته بين الناس.
التعريف بالماوردى

هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، ولد بالبصرة وتلقى تعليمه بها. ثم انتقل إلى بغداد حيث واصل تعليمه في دراسة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم.

وقد امتدت حياته من عام مولده سنة 364هـ حتى مماته سنة 450هـ وله من العمر ست وثمانون عاما، وهي الفترة التي كانت الثقافة الإسلامية في قمة ازدهارها، وهو علم من أعلام الفكر الإسلامي، كما اشتغل بالتدريس عدة سنين في البصرة وبغداد.

تلقى تعليمه على يد شيوخ وأساتذة عديدين منهم الحسن بن علي بن محمد الجبلي ومحمد بن الفضل البغدادي ومحمد بن المعلي الآزدي وأبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني.

تذكر كتب التاريخ أن الماوردي تولى القضاء في بلدان كثيرة، وكان يلقب بأقضى القضاة، واختير سفيرا بين رجالات الدولة في بغداد وبني بويه، فكانت له منزلة كريمة عند الخليفة القادر وعند آل بويه.

ترك لنا الماوردي كتبا كثيرة تقدر بنحو اثني عشر كتابا بعضها لم يطبع وهي تشمل كتبا دينية وأخرى لغوية وأدبية وثالثة في السياسة والاجتماع.

أفكاره التربوية

ضرورة التأديب

يروي الماوردي أن التأديب ضروري لأن النفس مجبولة على شيم مهملة وأخلاق مرسلة لا يستغنى محمودها عن التأديب والتهذيب، لأن النفس ربما جمحت عن الأفضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأديب وهي له مستحسنة، لأنها عليه غير مطبوعة فتصير منه أنفر ولضده آثر. وقد قيل: ما أكثر من يعرف الحق ولا يطيعه. وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة وفي الفضائل راغبة فإذا مازجها صارت طبعا ملائما.

ويقول الماوردي إن الأدب مكتسب بالتجربة ومستحسن بالعادة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وهو يرى أن التأديب يلزم من وجهين أو جانبين، أحدهما ما يلزم الوالد لولده في صغره. والثاني ما يلزم الإنسان في نفسه عند نشأته وكبره، أما الأدب اللازم للإنسان عند نشأته وكبره فيذكر الماوردي أنه على نوعين: أدب مواضعه واصطلاح وأدب رياضة واستصلاح.

أما النوع الأول وهو أدب المواضعة والاصطلاح فيؤخذ تقليدا على ما استقر عليه اصطلاح العقلاء واتفق عليه استحسان الأدباء. وهذا الاصطلاح والاستحسان هو نوع من العرف المتفق عليه ولا يخضع لتعليل عقلي ولا دليل علمي يبرهن عليه. وإنما هو عادات درج الناس عليها مثل أصول السلوك الإنساني في المواقف المختلفة وكيف يأكل وينام ويشرب ويلبس ويتعامل مع الناس.

أما النوع الثاني وهو أدب الرياضة واستصلاح فهو ما لا يختلف العقلاء في صلاحه وفساده. ويمكن تعليله بالعقل والبرهنة عليه بالدليل. وأول هذا النوع من الأدب ألا يسارع الإنسان إلى حسن الظن بنفسه فلا يرى مذموم شيمه وأخلاقه وما فيه من عيوب. لأن النفس أمارة بالسوء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ثم أهلك ثم عيالك". وقد قال بعض الحكماء: "من ساس نفسه ساد نفسه". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "العاجز من عجز عن سياسة نفسه".

شرف العلم وفضله

يذكر الماوردي في أول كلامه عن أدب العلم في الباب الثاني من كتاب (أدب الدنيا والدين) قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، ويعلق على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى منع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم. وهو يورد أمثلة كثيرة على شرف العلم وفضله على صاحبه. منها قول عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم. فإن كنتم سادة فقدتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم.

ويقول الماوردي في المفاضلة بين العلوم: إن العلوم شريفة ولكل علم منها فضيلة والإحاطة بجميعها محال. وإنه لا حد للعلم ولا نهاية، ويذكر ما وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ظن أن للعلم نهاية، فقد بخسه حقه ووضعه في غير منزلته التي وصفه الله بها حيث يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " وقول بعض العلماء: "المتعمق في العلم كالسابح في البحر ليس يرى أرضا ولا يعرف طولا ولا عرضا".

وهو يعتبر أن أفضل العلوم علوم الدين ويورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" ويعلق على ذلك بقوله: لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم.

ومن قبيل المقارنة بين فضل العلم وفضل المال يفضل الماوردي العلم على المال ويورد قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فضل العلم على المال "العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. العلم حاكم والمال محكوم عليه. مات خزان الأموال وبقي خزان العلم أعيانهم مفقودة وأشخاصهم في القلوب موجودة".

التدرج في طلب العلم

يقول الماوردي تحت هذا العنوان: "اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها. فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها. ولا يطلب الآخر قبل الأول ولا الحقيقة قبل المدخل فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة لأن البناء على غير أس لا يبني والثمر على غير غرس لا يجني.

أسباب التقصير في طلب العلم

يورد الماوردي عدة أسباب للتقصير في طلب العلم وهو يصفها بأنها أسباب فاسدة ودواع واهية هي:

1- أن يكون في نفس طالب العلم أغراض تختص بنوع من العلم، فيدعوه الغرض إلى قصد ذلك النوع ويعدل عن مقدماته، كرجل يؤثر القضاء ويتصدى للحكم فيقصد من علم الفقه إلى أدب القاضي وما يتعلق به من الدعوى والبينات، أو يحب الاتسام بالشهادة فيتعلم كتاب الشهادات، لئلا يصير موسوما بجهل ما يعاني، فإذا أدرك ذلك ظن أنه قد حاز من العلم جمهوره وأدرك منه مشهوره. ولم ير ما بقي منه إلا غامضا طلبه عناء, وعويصا استخراجه فناء، لقصور همته على ما أدرك، وانصرافها عما ترك، ولو نصح نفسه لعلم أن ما ترك أهم مما أدرك، لأن بعض العلم مرتبط ببعض ولكل باب منه تعلق بما قبله فلا تقوم الأواخر إلا بأوائلها.

2- أن يحب طالب العلم الاشتهار به، أي يقصده طلبا للشهرة أو التكسب أو التجمل، فيقصد من العلم ما اشتهر من مسائل الجدل وطريق النظر، ويتعاطى علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه، ليناظر على الخلاف وهو لا يعرف الوفاق ويجادل الخصوم وهو لا يعرف مذهبا مخصوصا وهذه طريقة من يقول اعرفوني وهو غير عروف "عارف" ولا معروف. وهي أيضا طريقة الديماجوجيين والمغالطين المكابرين في الحق، وطريقة كل من يقول خالف تعرف.

3- أن يغفل طالب العلم عن التعلم في الصغر ثم يشتغل به في الكبر فيستحيي أن يبتدئ بما يبتدئ به الصغير، ويستنكف أن يساويه الحدث الغرير. فيبدأ بأواخر العلوم وأطرافها، ويهتم بحواشيها وأكنافها، ليتقدم على الصغير المبتدئ ويساوي الكبير المنتهي. وهذا ممن رضي بخداع نفسه. وقنع بمداهنة حسه.

وهو يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: قلب الحدث كالأراضي الخالية. ما ألقي فيها من شيء قبلته. وإنما كان ذلك لأن الصغير أفرغ قلبا وأقل شغلا وأيسر تبذلا وأكثر تواضعا. وقد قيل في منثور الحكم المتواضع من طلاب العلم أكثرهم علما كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.

ويورد الماوردي ما حكي عن الأحنف بن قيس أنه سمع رجلا يقول: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكثر عقلا ولكنه أشغل قلبا. وقد قال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبدا. وقال بعض حكماء الفرس: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث لا تحب.

4- أن يكون طالب العلم كثير الشهوات مقسم الأفكار.

5- أن تحل بطالب العلم الهموم المذهلة والطوارق المزعجة وقد قيل في منثور الحكم الهم قيد الحواس.

6- أن تكثر أشغال طالب العلم لدرجة أنها تستوعب زمانه وتستغرق كل وقته. فإذا كان ذا يابسة ألهته وإن كان ذا معيشة قطعته. ولذلك قيل "تفقهوا قبل أن تسودوا" أي تعلموا قبل أن يصيروا سادة في قومكم فتمنعكم الأنفة عن التعلم فتعيشوا جهالا. وينسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال بزر جمهر: الشغل مجهدة والفراغ مفسدة فينبغي لطالب العلم ألا يني في طلبه. وينتهز الفرصة به. فربما شح الزمان بما سمح وضن بما فتح. ويبتدئ من العلم بأوله ويأتيه من مدخله ... ولا ينبغي أن يترك ما استصعب عليه ... لأن العلم طلبه صعب على من جهله، سهل على من علمه ... وقد قال بعض الحكماء العلوم مطلعها من ثلاثة أوجه: قلب مفكر، ولسان معبر، وبيان مصور ... وقد قال بعض العلماء: من أكثر المذاكرة بالعلم، لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم.
أخلاق العلماء

يقول الماوردي فيما يجب أن تكون عليه أخلاق العلماء أن يتحلوا بكل ما هو خلق حميد يليق بهم. وفي مقدمة ذلك التواضع ومجانبة العجب. ويورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". ويذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة، والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون ليتواضع لكم من تعلمونه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم". فالعلم أكثر من أن يحيط به بشر.

ومن أخلاق العلماء عدم التكلف فيما لا يحسن، ومن قال لا أدري فقد أفتى، لأن ليس إلى الإحاطة بكل العلم سبيل. وليس من العار أو العيب أن يجهل الإنسان بعضه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سئل فأفتى بغير علم فقد ضل وأضل".

ومن أخلاق العلماء ألا يحقر شيئا من العلم وأن يعمل بما علم. وقد روي عن عبد الله بن وهب وهو من كبار المحدثين عن سفيان أن الخضر عليه السلام قال لموسى عليه السلام: يابن عمران تعلم العلم لتعمل به ولا تتعلمه لتحدث به، فيكون عليك بوره "إثمه وفساده" ولغيرك نوره.

ومن أخلاق العلماء وآدابهم أن يبذلوا العلم لطالبه وألا يبخلوا بتعليم ما يحسنون ولا يمتنعون عن إفادة ما يعلمون. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كتم علما يحسنه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".

ومن أخلاق العلماء الصلاح والهداية وحسن الخلق والسلوك وحسن المعاملة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أهلك أمتي رجلان عالم فاجر وجاهل متعبد". فقيل: يا رسول الله أي الناس أشر؟ فقال: "العلماء إذا أفسدوا".

ومن أخلاق العلماء وآدابهم أن يكون لهم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته.

ويذكر الماوردي من آداب العلماء أيضا تنزيه أنفسهم عن شبهة المكاسب والقناعة بالميسور عن كد المطالب فإن شبهة المكتسب إثم وكد الطالب ذل. والأجر أجدر به من الإثم والعز أليق به من الذل. ذلك أن لذة العلم فوق كل لذة. وقد قال بعض البلغاء من تفرد بالعلم لم توحشه خلوة ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة ومن أنسه قراءة القرآن لم توحشه مفارقة الإخوان.

ويذكر الماوردي من آداب العلماء رأيا هو موضع جدل بل ومخالف لما سبقوه من أمثال القابسي وابن سحنون. هو أن يعلموا بلا أجر ويقصدوا بتعليمهم غيرهم وجه الله ويطلبوا ثوابه دون أن يلتمسوا عليه رزقا. ويذكر قول الله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أجر المعلم كأجر الصائم القائم".

ومن آداب العلماء التي يذكرها الماوردي أيضا نصح من علموه والرفق بهم وتسهيل السبيل عليهم وبذل المجهود في مساعدتهم ومعونتهم.. ومن آدابهم أيضا ألا يعنفوا متعلما ولا يحقروا ناشئا ولا يستصغروا مبتدئا. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "علموا ولا تعنفوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: "وقروا من تتعلمون منه ووقروا من تعلمونه".

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم