رسالتي ليست شكوي من أبنائي، فهم بحمد الله من أحن الأبناء وأبرهم بأبيهم، إنما هي تنفيس عن النفس وتخفيف عنها من وطأة الوحدة ولوعة الفراغ الذي أعيشه، فأنا رجل أرمل توفيت زوجتي منذ سنوات، وتركت لي ميراثاَ ثقيلاَ من الأبناء والبنات. أكملت مسيرتهم بعدها بمفردي، وقدت سفينة الحياة بمفردي حتى تزوج من تزوج وسافر من سافر، وإذا بي أجد نفسي في هذه المرحلة المتقدمة من العمر بين جدران أربعة أقضي أياماّ متشابهة، يومها مثل أمسها وغدها لن يختلف كثيراَ عن يومها، ويلفني طوال اليوم صمت طويل لا يكاد يقطعه إلا صوت الهاتف يحمل عبر أثيره صوت أحد الأبناء أو البنات ويطمئن على يضاحكني ويمازحني ويعتذر لي عن تقصيره معي أو عن زيارتي هذا اليوم لطارئ طرأ له أو لإرهاق جراء يوم كادح عاد بعده من عمله يتوق إلى الراحة، وأنا في كل الحالات ولله الحمد راض عنهم جميعاَ لأنهم يبذلون جهودهم لإسعادي، حتى إنهم يلحون على أقيم عندهم، لكنني أصر على الإقامة في بيتي الذي أسكن فيه.
وأصعب ما يكون الإحساس بالوحدة وبطء الحياة عندما يأتي المساء، فهو يعني بالنسبة لي الكثير، فأنا أصنع فيه كل شىء كي ينصرف فلا ينصرف. أقرأ القرآن، وأحضّر العشاء، وأشاهد التلفاز، وأقرأ الكتب، وأنشغل ببعض الأمور المنزلية، وأصلي ما شاء الله لي أن أصلي من الليل،....و....، و... لكن الوقت لا يمر كعادته عندما كنت أقضيه مع الأولاد وأمهم، حتى إنه ربما يصيبني القلق في الليلة الواحدة مرات عديدة لطول ما نمت، وكثيراَ ما تذكرت من صور الأحبة وذكرياتهم معي.
إنني لا أريد تعطفاَ ولا شفقة من أحد، إنما أردت كما ذكرت آنفاَ أن أنفس عن وحدتي وفراغي، ثم لأطلب منك النصح والمشورة التي أتمني أن تنزل على نفسي برداَ ورحمة وطمأنينة.
أعانك الله يا والدنا، فما أصعب ما ذكرت على النفس! وكأنني أثناء الرسالة أتنقل معك في غرفة نومك حيث يوقظك الأرق، وحين تقف في المطبخ تعد لنفسك الطعام وأنت الشيخ الكبير، وحين تنتقل من غرفة إلى غرفة تبحث عن جديد تفعله أو أمر يشغل عليك بعض وقتك، وحين تنظر إلى الهاتف تنتظر رنة تقطع عليك اليوم الطويل أو الليل الهادىء البهيم.
ثم ما أرحم قلبك وأحن نفسك حينما تؤكد على سلامة أبنائك من العقوق، وعذرك لهم على تركك بمفردك، وقولك إنهم من أبرّ الناس بك حتى ترحمهم، حتى من ظن القارئ بهم سوءاَ.
ثم ما أسرع تقلب الدنيا بأهلها، فمن بعد ضجيج العيال وامتلاء الحياة بهم وبأمهم، وإذا بزامرها ينفض على يوم هادىء إلا من تراتيل الآيات أو من أنات السجدات أو رنات الهواتف وصوت المكالمات.
غير أني يا والدي الحبيب ما عهدت الدنيا هكذا، وما رأيت الزمان أسرع مما حكيت، لكننا الذين أحسنا قراءة كل شىء إلا مواعظنا منها وما أكثرها.
وأما عنك يا والدي الحبيب فتقبل مني رسالتين:
الأولي: أنني لا أحب الحياة الاستثنائية ولو كانت يوما واحدا، فما يدري أحدنا فلعله الذي سيقبض فيه، لذا أوصيك ألا تصل مع نفسك إلى أن تستحث ما بقي لك من العمر أن يمضي حتى ينتهي لأن هذا شأن اليائس البائس، وما يظن رجلاَ مؤمناَ مثلك هكذا، لذا عليك أن تعيش المتبقي من الحياة كما تحب أن تعيشه، بمعني أن تملاء حياتك من الآن بما يشعرها بلذة الحياة والبقاء للعطاء وأنت أدري بنفسك في هذا الأمر، فإن كان كل ما ذكرته لك يتحقق بالزواج من ثانية تؤنس وحشتك وتملأ حياتك وترافقك بقية دربك فلا تردد ولا تخجل، فلأن تلقي الله عز وجل هكذا خير من أن تلقاه بئيساَ حزيناَ مستثقلاَ منحة الحياة الطويلة التي حباك الله إياها، وإن لم تجد نفسك في هذا الحل فابحث عنه في اكتشاف طعوم أخري للحياة لم تكن لتلتفت إليها وقت شبابك، كالاشتراك في مجالات العمل الخيري والتطوعي، أو تكوين نواة لعمل مجتمعي تحتاجه الأحياء لإصلاح ذات البين أو حل مشاكل المتعبين من الناس أو التفرغ لنظم عقد عائلتك الكبيرة من جديد بأن تخطط للم شملها وعمل أفكار تقرب بعيدهم وتيسر على معسرهم وتصلح ما أفسده طول الزمان بين بعضهم، المهم يا والدي أن تبحث عن دور يجعل لحياتك الجميلة هذه قيمة أكبر وشأن أعظم، وما أكثر هذه الأدوار لو بحثنا عنها، وأحسبك تستطيع.
أما الرسالة الثانية: فهي ألا يمنعك حياؤك الذي أشتم ريحه من كلامك أن تتداخل مع أبنائك وبناتك المتزوجين وتستمتع بدور الجد كما استمتعت بدور الزوج والأب دون انتظار هذا الدور حتى يأتيك، فقد تجد لطعم الحياة وأنت جد ما لم تجده من طعمها وأنت أب.
هذه يا والدي فلسفة الحياة الحقيقية التي أعرفها وأحسبك لا تجهلها، حياة الاستمتاع بالنعمة الممنوحة من الله عز وجل حتى آخر أنفاسها، وهذا لن يتأتي إلا بتجديدها دائما والرشف من شرابها الحلو الذي جعله الله في جميع مراحلها.