الام الفاضة صاحبة الرسالة، لا نريد أن نقلل من مخاوفك ولا أن نصفها بالمرحلة الصعبة، فالغيرة أمر موجود في الطبيعة البشرية. وهي قد تكون إيجابية حميدة ومطلوبة، وقد تكون سلبية وضارة منبوذة!
فتكون إيجابية مرغوبة حينما تولد تنافسا شريفا بين الأبناء أو بين الأشخاص الموجودين في المكان ذاته، كالذين يعملون في الشركة أو المؤسسة نفسها، فلولا الغيرة الحميدة بين أعضائها لما كان هناك إنتاج وتطور وتحسين وإبداع.
أما الغيرة السلبية البغيضة فهي المدمرة للنفس، القاضية على الكثير من الجهود والسعادة والعلاقات الاجتماعية، وهي تعرقل صفو الإخوة في أحايين كثيرة؛ لأنها تؤدي إلى الحسد والحقد والغيبة والعنف والحزن. والغريب أن كلا نوعي الغيرة، الإيجابية والسلبية، نحن البشر من ندرب عليه، ونؤجج مشاعره بدرجات مختلفة!
وهناك دراسة مهمة جدا في هذا الإطار للباحثة آندي حجازي، أستاذة علم النفس التربوي بالأردن، أكدت فيها أن الغيرة قد تتطور لتصبح من الأمراض النفسية أو القلبية، وقد تبدأ من المراحل الأولى من العمر، مما يتسبب في سلب طاقة الشخص وفاعليته وحيويته، والأسوأ أنها قد تستمر مع الشخص سمة مميزة له، طوال حياته.
فما هي الأسباب المؤججة لمشاعر الغيرة بين الأبناء؟
- السبب الأول: عدم العدل والمساواة
إن عدم المساواة بين الأبناء في التعامل، من قبل الوالدين، وعدم العدل معهم في كل النواحي، كالمساواة في نوعية الملابس والأدوات والحاجيات، وفي تقديم مشاعر الحب والحنان والتعاطف، وفي التقبيل والاحتضان والابتسام والنظرات الحانية، وفي الرعاية الجيدة، والعطايا والهدايا والمصروف، هي السبب الرئيسي والمحرك الأكبر لمشاعر الغيرة بين الإخوة، فشعور الابن بعدم العدل والمساواة بينه وبين إخوته في البيت يؤدي إلى ثورة نفسية تنشأ داخله، لإحساسه بالظلم، فتزداد مشاعر الغيرة حدة لديه كلما عمل الآباء على التفرقة بين الأبناء، فيزداد الشعور بالظلم، وتأخذ مشاعر الغيرة في التطور والنماء، وتؤثر سلبا على سير العلاقات الودية بين الإخوة في البيت، بل قد تكون الغيرة سببا لخلافات أبدية مستمرة بين الإخوة، وسببا في العداء والكراهية الدائمة.
- السبب الثاني: المقارنة بين الأبناء
والمقارنة من أسوأ ما يفعله الوالدان، وقد تكون بين الأبناء بعضهم ببعض، أو أمام الناس بمدح بعضهم من دون بعض، فقد يمدح الأب أحد أبناءه دوما، أمام الأقارب والأصدقاء لتفوقه أو مهاراته أو لموهبة لديه أو لقدراته القيادية أو لجمال في شكله.. وفي المقابل، لا يذكر أي شيء إيجابي عن طفله الآخر، ويتكرر ذلك الموقف مرات ومرات، مما يشكل عقدا نفسية لدى الطفل المهمَل، تتحول مع الوقت إلى مشاعر غيرة وكراهية وعدوان، أو انعزال وقنوط.
- السبب الثالث: التفوق والتميز
وهو شعور الأخ بتفوق أخيه عليه في جانب معين، كتفوقه عليه في دراسته أو شكله وجماله الخَلقي، أو تميزه في مهاراته، أو مواهبه، كالرسم والرياضة، أو في محبة الآخرين له، مما يثير لديه مشاعر الغيرة، التي لو عولجت، منذ الصغر، بشكل جيد، لكان تعود الابن حب الخير لغيره، وتقبل الفروقات بين البشر، ولتعلم أن الكمال لله وحده، وأن لا أحد لديه كل شيء، بل كل إنسان يتفوق في جانب، ولا يتفوق في كل شيء، وعليه أن يحمد الله على كل حال، لا أن يحسد غيره.
مظاهر الغيرة بين الإخوة (وقد تظهر واحدة منها أو أكثر)
وهو من أوضح مظاهر مرض الغيرة وأعنفها، فبعض الأبناء، خصوصا الكبار منهم، قد لا يعبرون صراحة عن رفضهم للتفرقة وشعورهم بالغيرة من بعض إخوتهم، بسبب أسلوب والديهم في التعامل معهم، ولكن هذا يصبح باديا للعيان من خلال تصرفاتهم التي قد تؤدي إلى صراعات وتوترات نفسية في البيت، وعنف مع الآخرين، واعتداء على إخوته بالضرب والصراخ والشتائم.
وغالبا ما يظهر لدى الصغار، فبكاء الأخ الصغير لأتفه الأسباب، وعناده، وضرب رأسه في الأرض أو بيديه، ورميه للحاجيات بعصبية.. كلها مظاهر تشير، في أحيان كثيرة، إلى مشاعر الغيرة لدى هذا الطفل، وأحيانا كثيرة تكون نتيجة ولادة طفل جديد في الأسرة، فيشعر كأنه أخذ مكانه.. فيبكي، ويعلو صراخه لأي سبب، مثل عدم تلبية طلباته بالسرعة اللازمة، أو لسقوطه على الأرض، أو لأخذ شيء من حاجياته. وكثيرا ما يحدث أن لا تعرف الأم سبب هذا البكاء والعناد والنكد والفوضى التي يحدثها، ولكن لو راجعت سلوكياتها وطريقة تعاملها فستعرف.
- الخجل والانطواء والعزلة عن أهل بيته
الانزواء وترك مخالطة الآخرين هما من أسوأ ما يصل إليه الابن، نتيجة الغيرة، ففي الوقت الذي يتصور فيه الوالدان أنه يلعب في غرفته وحده، ويمارس هواياته، فلا يقدمان له الاهتمام، وأنه هادئ ووديع.. يكون هو يعاني من مشكلة نفسية بداخله، لا يعرف كيف يعبر عنها، وكيف يصارح والديه بما يجد، فتتفاقم وتتحول إلى عقد نفسية وحقد وكراهية للآخرين.. فإهمال الوالدين لطفلهما المنعزل خطير للغاية.
ولا يعلم الوالدان أن الغيرة حين تصل إلى مستوى كبير تقضي على مرح الطفل ونشاطه وحيويته التي لا بد أن يتصف بها في مرحلة الطفولة، وأن لهذا الانطواء أثرا سلبيا على الطفل في المستقبل، حيث يصبح يخاف الاختلاط بالناس، مما يقلل ثقته بنفسه وبنجاحه في الحياة.
تظهر لدى الابن الذي تعتريه مشاعر الغيرة والغيظ سلوكيات ظاهرة للعيان، كقضم الأظافر، والتبول اللاإرادي، أو العبث في حاجيات البيت بفوضى، أو التظاهر بالمرض.. لمحاولة الحصول على الاهتمام والتقرب من الوالدين، وجذب انتباههما وعطفهما. ولكن للأسف كثيرا ما تبوء محاولاته بالفشل، نتيجة عدم إصغاء الوالدين لصوت طفلهما، ولعدم تحرك الجهاز العاطفي لديهما، والذي قد لا يتحرك بالدرجة نفسها لكل الأبناء! الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم مشكلة الغيرة بينهم، والتي تستمر حتى عندما يكبرون، فتكبر معهم مشاعر الغيرة والاستياء، وأحيانا الكراهية أو التباعد والجفوة بينهم، ويستمر الوضع حتى بعد أن يتزوجوا ويصبح لكل منهم بيت وأسرة! بل قد تزداد أكثر بعد ذلك.
كيف أقــلل مشــاعر الغيــرة بين الأبنــاء؟
أيها الآباء والأمهات، حاولوا قدر الإمكان ما يلي: لتقليل مشاعر الغيرة بين أبنائكم، ولتعزيز ثقتهم بنفسهم والمحبة فيما بينهم:
- العدل والمساواة بين الأبناء
وهما السبب الأول والأخير والأهم لحل مشكلة الغيرة، فالعدل بين الأبناء في كل النواحي المادية والمعنوية هو المطلوب لوأد مشاعر الغيرة بين الإخوة، فلا تظهر الحب والحنان لطفل دون آخر، حتى وإن كان بحاجة، لمعاناته من مرض ما، أو إعاقة ما، أو مشكلة نفسية أو جسدية.. وكذلك لا تفرق في المعاملة أو العطايا.. إلا إذا أوضحت لهم سبب هذا الاهتمام وأقنعتهم به.
فلابد من إشعار كل ابن بالحب والحنان والتكريم والاحترام والمكانة، في الأسرة وفي قلب الوالدين، وذلك يكون قولا وعملا، خصوصا للابن الذي يعاني من اضطرابات سلوكية أو عصبية زائدة، أو من توتر وحالة نفسية.. وتذكر كيف توهّم إخوة يوسف عليه السلام أن أباهم قد أحب يوسف عليه السلام أكثر منهم، فآذوه، وحاولوا التخلص منه برميه في بئر عميقة مظلمة؛ {إِذْ قَالُوا لَيُوسُف وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} (يوسف: 8)، فاحذر من تصرفاتك ومشاعرك غير المتساوية.
- توزيع المهام والمسؤوليات بين الأبناء
شارك أبناءك جميعهم بعض المهام والمسؤوليات التي تشعرهم بالحب والاهتمام والألفة، وتزيد من ثقتهم بأنفسهم، وتدعم مسيرتهم في الحياة، فلا تجعل تلك المسؤوليات ملقاة على عاتق بعض الأبناء، دون الآخرين، بحجة أن هذا قادر وهذا غير قادر، أو هذا الكبير وهذا الصغير، وإلا فستكون أنت من يسبب التفرقة والغيرة بين أبنائك.
- هيئ ابنك الأكبر لقدوم مولود جديد
لا تعط كل الحب للطفل الصغير، وتهمل الكبير، فهيئ الأخ الأكبر لتقبل قدوم المولود الجديد، وعلمه كيف يحبه، فمثلا عندما تشتري للمولود الجديد بعض الملابس، اشتر أيضا للإخوة الأكبر؛ لأنهم لابد أن يفسروا ما تفعله للصغير بأنك تحبه أكثر منهم، فيشعروا أن المولود الجديد قد أخذ مكانهم من حبكما واهتمامكما، فيحاول بعضهم إيذاءه أو إهماله وإنكار وجوده، كما فعل إخوة يوسف به.
استمع لجميع أبنائك ولآرائهم ومشاكلهم وأفكارهم، خصوصا المراهقين منهم، ولا تجعل استماعك مقتصرا على واحد منهم دون الآخرين، واحترم آراءهم، لأن الاستماع إليهم يزيد من ثقتهم بحبك لهم، ويقلل مشاعر الغيرة والحسد بين الإخوة، خصوصا إن كنت تفعل ذلك مع جميع أبنائك، وبجلسات تحاورية، أما إن كنت تستمع إلى بعضهم وتحترم مثلا آراء الكبير، دون الصغير، فإنك تؤجج مشاعر الغيرة والغيظ لديهم، فتكون أنت، أيها الوالد أو الوالدة، سببا للتفرقة بين أبنائك، وكراهية بعضهم لبعض!
- ازرع الثقة والمحبة بين أبنائك
تقع على الوالدين مسؤولية زرع المحبة المتبادلة بين الإخوة في البيت، فذكر ابنك دوما أن هذا أخوك، وهو جزء منك، وأنه يحبك، وأنك تحبهم بالمقدار نفسه.. وعلمه أن لدى إخوته مواهب معينة، كما أن لديه مواهب مختلفة، وأن عليه تحسين نفسه وتطوير مواهبه ومظهره وإنتاجه... مع تركيز الوالدين على تنمية موهبة كل ابن على حدة؛ لزرع الثقة بنفسه وبقدراته، فتتطور بدلا من أن تضمحل وتتلاشى، بمرور الزمن.
إن المقارنة بين الأبناء سبب رئيسي للغيرة، فلا تقارني أبدا بين ابنك وآخر أمام إخوته، ولا أمام الآخرين، ولا حتى في نفسك، لأن لكل ابن مواهبه وقدراته وطاقاته وميوله وأهدافه في الحياة، فالمقارنة بين الأبناء هي من أكثر الأسباب المحبطة التي تثير مشاعر الغيرة والحقد الدائم، فلا تقل: «ابني فلان أكثر ذكاء من الآخر، أو متى ستصبح مثل أخيك؟ أو أنت لا تتقن شيئا.. وانظر إلى أخيك وتعلم منه...» فهذه عبارات تقريع قاتلة للمواهب والقدرات ومشاعر الحب بين الإخوة، بل بالعكس ازرع الثقة النفسية في أبنائنا بمدح كل واحد منهم على ميزاته وقدراته ومواهبه.