إن المتدبر للقرآن الكريم، والمتفهم لطريقته يجد أنه يحوي بين دفتيه من القواعد التربوية والدعوية؛ ما إن سار عليها المربون والدعاة والمصلحون لأدى ذلك إلى نجاح الدعوة واستقرارها في النفوس السليمة، والعقول المستقيمة.
وفي هذه الدراسة التي أعدّها د. توفيق على زيادي، يعرض لبعض عادات القرآن، ويقصد بعادات القرآن: ما كرره القرآن الكريم دائمًا أو غالبًا على نهج واحد، حتى يستقر في النفوس ذات الفطرة السليمة.
أولاً: إذا ذكر آية في الوعيد، أن يعقبها بآية في الوعد
فمن ذلك ما ذكره الله تعالى في سورة محمد: (مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ولَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ومَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) فبعد هذا الترغيب الجميل، أعقبه بما يخوف النفوس، ويرعب القلوب، فقال: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
وإذا ذكر الله صفة من صفاته التي توحي بالرحمة أتبعها بما يرهب من صفة أو عذاب، قال – تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ (50)).
ومن حكمة الموازنة بين الوعد والوعيد:
-
أن النفس البشرية طبعت في أن واحد على الخوف والتأثر بالترهيب من جهة، والطمع والاستجابة للترغيب من جهة أخرى.
-
أن الجمع بين الوعد والوعيد أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية.
-
أنهما أداة الهداية والإصلاح.
-
ولو اقتصر الداعية على منهج الترغيب، لتواكل المدعوون على الرحمة، وقل خوفهم من العذاب، وتمادوا في العصيان، وعزفوا عن التوبة.
ثانياً: التعريض
مثل قوله – تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).
وكان هذا الأسلوب هو خلق رسول الله صلي الله عليه وسلم فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول ...؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا؟ فكان إذا كره شيئاً فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله، وهذا من عظم خلقه صلي الله عليه وسلم فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك، ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ .
ثالثاً: الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث والدخول والنكاح ونحوهن
قال تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) فكنى المباشرة ع الجماع لما فيه من التقاء البشرتين، وقال تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) إذ لا يخلوا الجماع من الملامسة.
وفوائد ذلك: أن التعبير باللفظ الأحسن مكان اللفظ القبيح أدب قرآني ينبغي تربية المسلمين عليه، حتى يخلو المجتمع من ألفظ الفحش والتفحش، ويسمو المجتمع بأخلاقه، ويصبح شامة بين المجتمعات؛ ترى فيه القدوة الحسنة؛ فيكون دعوة بسلوك وأخلاق أفراده.
رابعاً: تنبيه عباده؛ فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب
كما قال تعالى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ).
فعلي المربين والمصلحين دعوة المسلمين إلى إعمال عقولهم فيما يعود بالخير والصلاح على البشرية، وتهيئة الأجواء العلمية، والعملية لتنفيذ ذلك؛ فإن الله يحب من عباده ذلك، ولذلك مدح – سبحانه – أولي الألباب في مواضع كثيرة في القرآن؛ لأنهم هم القائمون والناهضون بتكاليف هذا الدين، وهم الذين يرجى منهم قيادة الأمة في جميع مجالات الحياة بما يعود على البشرية بالخير والصلاح والنماء.
خامساً: كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس، فإنه يذكر عقبها الدلائل الموجودة في الآفاق
فيمن الدلائل في الأنفس قوله – تعالى-: (فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ) (عبس: 24) ومن الدلائل في الآفاق: قوله – تعالى-: (أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا (27) وعِنَبًا وقَضْبًا (28) وزَيْتُونًا ونَخْلاً (29) وحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وفَاكِهَةً وأَبًا (31) مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ (32)).
فوائد ذلك: التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال لمعرفة بديع صنع الله، قال العلماء: ((فأول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى). فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء.
سادساً: لا يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولاً في القرية الكبرى منها
قال تعالى: (ومَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ومَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إلاَّ وأَهْلُهَا ظَالِمُونَ).
وفائدة ذلك: أنه على الدعاة والعلماء والمصلحين أن يوجهوا جهودهم الدعوية إلى القرية الكبرى والتي تمثل مركز الإشعاع العلمي والروحي، والتي هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها؛ فلا تخفى دعوة العلماء والمصلحين فيها، ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعداداً لإدراك الأمور على وجهها.
وتطبيقاً لذلك فإنه ينبغي: استثمار مكانة مكة المكرمة، استثماراً يعود على الأمة بالعزة والسود والفهم الوسطي للإسلام؛ لأنها مركز الإشعاع الروحي والفكري للأمة الإسلامية، وكذلك استثمار الجامعات الكبرى والتي تجمع طلاباً من جميع أنحاء العالم؛ لتكون مركزاً لتبليغ الرسالة المحمدية إلى كل العالم.
سابعاً: عادة الله – تعالى– بالمؤمنين في أمره ونهيه، مخالفة مشتهاهم
كما قال – تعالى – للمؤمنين في معرض اختلافهم في الغنائم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأنفال: 1) وقوله: (وإنَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ)، فإن غضهم من النظر عما لا يحل النظر إليه، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين؛ أطهر لهم عند الله وأفضل.
فوائد ذلك تربوياً ودعوياً:
- أن يتولى الدعاة توضيح ما في أحكام الله من خير للنفس البشرية، وإن بدا في الظاهر أنها شر.
- أن يفطن المربون والدعاة إلى ما يشتهيه المدعوون، ومحاوله اتباع المنهج القرآني في مخالفة ما تشتهيه النفس البشرية؛ حتى لا تصبح النفوس أسيرة لشهواتها؛ فيصعب عليها القيام بواجب الاستخلاف والعمارة في الأرض.
.