Business

المعرفة التربوية عند الإمام الغزالي

كان الغزالي من أشهر علماء القرن الخامس الذي تميز بكثرة التناقضات، وازدحم بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي كان لها أبلغ الأثر في حياة الغزالي، وكانت له مساهمات واضحة وآثار أحدثها في مجال المعرفة التربوية أولها: الكتابة بصورة تأصيلية في قضايا التربية المختلفة بدرجة تقترب من وضع نظريات عامة صالحة للتطبيق، وثانيهما التركيز على مفهوم العبودية، وربط العبادة بالتربية والتعليم.

وفى دراسة بعنوان «المعرفة التربوية عند الإمام الغزالي» -2010-، للدكتورة بدرية بنت صالح الميمان، هدفت إلى توضيح جوانب المعرفة التربوية عند الإمام الغزالي ومدى مساهمته في البناء المعرفي الإسلامي، ودوره في تحديث المعرفة التربوية وتأصيلها، وذلك من خلال استقراء بعض كتب الغزالي، وبعض ما كتب عن الرجل من دراسات وكتب وبحوث، واستخلاص أهم أفكاره التربوية التي ساهمت في إثراء المعرفة التربوية الإسلامية.

 

نبذة عن حياة الغزالي

هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، وسمي الغزالي نسبة إلى قرية غزالة من قرى طوس، هو حجة الإسلام، والمناضل عنه، وشيخ الصوفيين، وإمام المربين، ولد وتوفي بالطابران عاصمة طوس، تلقى العلم على إمام الحرمين الجويني، إمام الشافعية آن ذاك، وأعجب به أستاذه وصار يفاخر به العلماء، وأصبح الغزالي من علماء الشافعية وكبار الأشعريين، واشتهر بالقدرة على الحوار والمناظرة ودفاعه عن الإسلام، تولى منصب التدريس، ثم تركه رغبة في حياة الصوفية، فاشتغل بتأليف كتبه وترويض نفسه، وأظهر كتابه الضخم (إحياء علوم الدين) الذي تضمن الكثير من آرائه التربوية.

تتلخص حياة الغزالي في ثلاثة مراحل:

الأولى: تجنح نحو دراسة الدين وعلوم الشريعة، وكانت على مراحل المرحلة الأولى بطوس، والثانية في جرجان، والثالثة في نيسابور على يد الجويني، ولقد اكتملت في المرحلة الثالثة معالم شخصية الغزالي التي اتسمت باتجاهات فكرية خاصة به في شتى العلوم سواء الدينية أو الدنيوية منها، ولقد كانت مرحلة ما بعد وفاة الجويني 478 هـ متميزة عن غيرها بسبب استغراق الغزالي في التعلم الذاتي والبحث المضني عن الحقيقة، إلى جانب إقباله في نهاية المطاف على علوم الحديث.

الثانية: تميل نحو الفلسفة والمنطق ومشتقاتهما، وقد ورد عنه أنه أخذ علوم الفلسفة من دون شيخ فقد صرح بذلك في كتابه (المنقذ من الضلال).

الثالثة: مرحلة التأمل والزهد والورع، حيث قرأ في التصوف على الإمام الفارمدي الطوسي، وطالع كتب أبي طالب المكي، والحارث المحاسبي، والجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي وغيرهم، وفي خلال المرحلة الثالثة لبس الغزالي الخشن من الثياب وأكل الحاف من العيش، وأكثر من التجوال للمشاهدة والعبرة والتأمل، وقد قطع الغزالي شوطًا كبيرًا في هذا المضمار، ثم عاد بعدها إلى بغداد وعقد مجلس الوعظ حيث أقام جانب داره مدرسة للفقهاء، ومحلًا للصوفية ووزع أوقاته على وظائف؛ ختم القرآن ومجالسة أرباب القلوب، والتدريس لطلبة العلم، وإدامة الصيام والصلاة وسائر العبادات، إلى أن وافته المنية في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادي الآخر عام 505هـ بعد أن خلف وراءه زاد للعالمين والعارفين.

لقد كان الغزالي- رحمه الله- علم من أعلام الفكر الإنساني الذين بلغوا في حياتهم ومماتهم مكانة رفيعة ونسبت إليه جلائل الأعمال، ويعد الغزالي من أشهر الفلاسفة المسلمين، ومن أكثرهم تأثيرًا في الفكر الإسلامي عامة وفي التصوف الإسلامي خاصة، وهو دائرة معارف فلسفية، وهو من أشهر أعلام القرن الخامس الذي تميز بكثير من المتناقضات، وازدحم بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، مما كان له أكبر الأثر في حياة الغزالي ونتاجه الفكري، حيث شهد القرن الخامس الهجري ضعف وانحلال الخلافة العباسية وضعف كيان الدولة السياسي بكثرة الأفكار والآراء ونزاع الفرق والطوائف المتعددة وابتعادها عن الكتاب والسنة، وتركت هذه الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية بصماتها واضحة على دراسة الغزالي وفكره وآراءه، وانطلاقًا من ذلك يمكن القول أن الغزالي تأثر بمصادر ثلاثة وهي: الشريعة الإسلامية، والتصوف، والفلسفة؛ لذلك تميز النتاج الفكري لأبي حامد الغزالي بالاتساع والتنوع. وقد ترك الغزالي ما يزيد على سبعين مؤلفًا في فروع كثيرة من المعرفة منها الفقه، والفلسفة، والمنطق والتربية... أكثرها في الفقه والمناظرة والرد على الفلاسفة والدفاع عن الدين، ومن أشهر كتبه ومؤلفاته: «المنقذ من الضلال»، «إحياء علوم الدين»، «فاتحة العلوم»، «أيها الولد»، «والرسالة اللدنية»، «تهافت الفلاسفة»، «مقاصد الفلاسفة»، «كيمياء السعادة»، «المستصفى»، «بداية ونهاية»، «القسطاس المستقيم»، «ميزان العمل».

 

دور المعرفة التربوية عند الغزالي في تأصيل المعرفة التربوية الإسلامية

لقد ارتكزت المعرفة التربوية عند الغزالي على أصول متينة وثابتة تنطلق من الرؤية الإسلامية لكل من الكون والإنسان، والحياة، والمجتمع، والمعرفة والقيم الأخلاقية حيث قامت المعرفة التربوية عند الغزالي على أرض التوحيد والعبودية وهدفت إلى غاية سامية هي رضا الله سبحانه وتعالى، وعبادته وطاعته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، وسقت تلك الأصول وغذتها بالوحي المتمثل في آيات القرآن الكريمة وسنة النبي ﷺ التي أمرت الإنسان بالتفكر والتدبر والنظر في آيات الله ومخلوقات لتحصيل العلم والمعرفة، حيث جعلت للعلم والمعرفة مكانة عظيمة وجعلت العلماء ورثة للأنبياء، ومن خلال هذا المنطلق جاءت نظرية الإمام الغزالي التربوية مؤصلة نقية على مستوى الركائز والمضامين، وعلى مستوى التطبيقات، وفيما يلي بعضًا من جوانب تلك النظرية المعرفية التربوية لدى الإمام أبو حامد الغزالي:

فلسفة التربية والتعليم عند الغزالي

لقد قامت العقيدة التي يقوم عليها فكر الغزالي على تكامل المادة والروح باعتبارهما مظهرين متكاملين للكون والحياة، لذلك تركز فلسفة الغزالي التربوية على إيجاد الشخصية الإسلامية المتميزة التي تتخذ من رسول الله ﷺ قدوة لها، والتي يحركها الإيمان بالله فكرًا وممارسة، لذلك قامت فلسفة الغزالي في التربية على المبادئ والمعتقدات المنبثقة من هذا الإيمان.

واعتبرت الأساس الذي تقوم عليه فلسفة التربية والتعليم هو تحقيق السعادة للإنسان، ووضح مفهوم السعادة وكيفية تحقيقها في مواضع كثيرة في كتبه، وخصها بمؤلف سماه «كيمياء السعادة»، ووضح الغزالي أن السعادة حصيلة مجاهدة القلب وتطهيره من الأخلاق المذمومة، وسر هذه السعادة أن أساسها الرجوع إلى الله في الدنيا ومعرفته، ومفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس؛ فمن عرف نفسه فقد عرف ربه.

والسعادة المقصودة هنا هي السعادة الأخروية لأنها شاملة لكل ما هو مرغوب فيه، يقول الغزالي في هذا الصدد: «وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، وكيف لا وتعرف فضيلة الشيء بشرف ثمرته، وهي القرب من رب العالمين».

فبلوغ السعادة المنشودة لا بد له من تضافر العلم والعمل وإلى ذلك يشير الغزالي بقوله: «فإذا قلت فكم طالب رديء الأخلاق حصل العلوم فما أبعدك عن فهم العلم الحقيقي الديني الجالب للسعادة، فما يحصله صاحب الأخلاق الرديئة حديث ينظمه بلسانه مرة وبقلبه أخرى وكلام يردده، ولو ظهر نور العلم على قلبه لحسنت أخلاقه».

وتغيير السلوك هذا لا يتم إلا بالتعليم ولهذا كانت مهنة التعليم من أشرف المهن، كما وضح الغزالي أن السعادة الأخروية المنشودة وثيقة الصلة بالمجتمع الدنيوي قال الغزالي: «إن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة، ومنزلًا لمن يتخذها مستقرًا وموطنًا».

وهذا أمر يستدعي أن يكون التعليم وثيق الصلة بحاجات المجتمع بحيث يعد أفرادًا يجتهدون في تحقيق حياة اجتماعية تتوفر فيها متطلبات الحياة الدنيوية وتتناسق مع قوانين الفطرة، ويراعون فيما يعملون أوامر الله وتوجيهاته، بحيث يقبل كل فرد على القيام بما أعد له دون الشعور بالحرج أو التردد لأن المكافأة على درجة الإتقان وليست على نوع العمل وهذا يعني أن تتنوع الكفاءات وتتساوى القيم والمقاييس؛ إذ لو لم يعتقد الخياط والحائك والحجام في صنعته ما يوجب ميله إليه لتركها وأقبل الكل على أشرف الصنائع، وبطلت كثرة الصنائع، ولو عرف الكناس ما في صنعته لتركها ولاضطر العلماء والخلفاء والأولياء أن يتولوها بأنفسهم، وكذلك الدباغة والحدادة والزراعة وجميع الأمور، فلولا أن الله تعالى حبب علم الفقه والنحو ومخارج الحروف والطب في قلوب طوائف لبقيت هذه العلوم معطلة ولتشوش النظام الكلي».

 

أهداف التربية عند الإمام الغزالي

يعتبر الغزالي الغاية من التربية هي التقرب إلى الله عز وجل والدليل على ذلك طلب العلوم ومحاسن الأخلاق. ومن الواضح أن تصور الغزالي لأهداف التربية انطلق من نظرته الواضحة لوجود الإنسان وحياته، فقد ركز على غاية سامية للتربية والتعليم وهي طلب رضا الله وعبوديته وطاعته من خلال طلب العلم، وجميع السلوكيات المؤدية إليه؛ حيث ركز على النية والقصد في طلب العلم ووجوب توجيهها لله الذي يعتبر عنصرًا مفقودًا في تربيتنا المعاصرة مما أفقد التعليم جودة ثمرته وبركتها. يقول الغزالي- رحمه الله- في رسالة أيها الولد: «كم من ليلة أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب، وحرمت على نفسك النوم؛ لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كانت نيتك نيل عرض الدنيا، وجذب حطامها، وتحصيل مناصبها، والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك، وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي ﷺ وتهذيب أخلاقك، وكسر النفس الأمارة بالسوء فطوبي لك ثم طوبى لك».

وقد لخص الغزالي هدف التعليم في تحقيق الكمال الإنساني الذي غايته التقرب من الله ومن ثم سعادة الدنيا والآخرة، فيقول: «ونحن نبتغي من العلم تبليغ النفس كمالها». ويقول الغزالي- رحمه الله-: «أن يكون قصد المتعلم تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل والقرب من الله سبحانه»، ووظيفة التعليم تهيئة الفرد للمساهمة في تحقيق الحياة الاجتماعية، بحيث يقبل كل فرد على القيام بما أعد له دون شعور بالحرج أو التردد، لأن المكافأة على درجة الإتقان وليست على نوع العمل.

 

نظرة الغزالي للكون

إن نظرة الغزالي- رحمه الله- للكون لا تختلف عن نظرة الإسلام لهذه الكون الفسيح؛ فيرى الإمام الغزالي- رحمه الله- أن الكون من فعل الله وصنعه بحيث أنه يشمل كل خلق لله يقع عليه اسم الشيء، وهذا يعني أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه، تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته، وليس بالإمكان إحصاء ذلك، ولا يمكن الإحاطة بجميع مخلوقات الله حيث أنها تقسم إلى فئتين الأولى: ما لا يعرف أصلها، فلا يمكننا التفكير فيها وكم من الموجودات التي لا نعلمها لقوله تعالى: {والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً ويَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل: 8)، والثانية: ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصلها، حيث يكون بمقدور الإنسان أن يتفكر في تفصيلها، وتنقسم الفئة إلى ما يمكن إدراكه بحس البصر (الكون المشهود) مثل: السموات والأرض وما بينهما، وما لا يمكن إدراكه بالبصر (وهو عالم الغيب) مثل الملائكة والجن والشياطين والعرش والكرسي وغير ذلك.

وقد علق البعض على نظرة الغزالي للكون بأنه متأثر في تقسيمه للكون إلى عالم الغيب وعالم الشهادة، والملك والملكوت بأفلاطون الذي قسم الوجود إلى عالمين؛ عالم المحسوسات، وعالم المثل، إلا أن الغزالي عند عرضه لتقسيمه للوجود استدل على ذلك بآيات القرآن الكريم، وحث على النظر فيها، وأورد الآيات التي تحث على النظر في آيات الله في الكون ولم يستشهد برأي أفلاطون أو غيره.

 

نظرة الإمام الغزالي للطبيعة الإنسانية

يؤكد الغزالي أن الشخصية الإنسانية مكتسبة موروثة، وأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان والثقافة التي يتفاعل معها تشكلان شخصية الفرد. كما رأى الغزالي أن إرادة الإنسان وسط بين الجبر والاختيار. فوقف الغزالي موقفًا وسطًا في قضية حرية الإرادة وأخذ يمزج بين الآراء المتعددة، إلى أن تبنى المذهب القائل بالإرادة وسط بين الجبر والاختيار يقول الغزالي: «إن فعل العبد وإن كان كسبًا للعبد فلا يخرج عن كونه مرادًا لله سبحانه، فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا لفتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته وبإرادته ومشيئته سبحانه»، والغزالي في كل ما يورده عن الإنسان يؤكد على ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من كون الإنسان وحدة متكاملة وليس أجزاء منفصلة، وهو مكون من مادة وروح معًا وهذه الطبيعة المزدوجة ليست أمرًا طارئًا على الإنسان ولا ثانويًا فيه، بل هي فطرته التي فطره الله عليه وأهله للخلافة على الأرض منذ خلق آدم فجمع بين قبضة الطين ونفخة الروح.

أشار الغزالي أن النفس الإنسانية تتكون من شيئين: الأول هذا القالب (الجسم) والثاني: يسمى النفس والروح، والنفس هي القلب الذي يخص عالم الغيب وليس قطعة اللحم التي ترى بالعين المجردة، فتلك القطعة من اللحم مركبة وكل أعضاء الجسد عساكره، وهو الملك لذلك على الإنسان المجاهدة في معرفة هذا القلب، ولا تحصل للإنسان معرفة عجائب العالم إلا من طريق الحواس، والحواس من الجسم، والجسم لا يقوم إلا بالطعام والشراب والحرارة والرطوبة، فضعف الجسم يتركز في غرائزه مثل الجوع والعطش، وفي ما يتعرض له من أخطار خارجية مثل النار والماء ونحوها.

أن جسم الإنسان في عسكرين: عسكر ظاهر هو الشهوة، والغضب ومنازلهم في اليدين والرجلين، والعينين والأذنين وجميع الأعضاء، وأما العسكر الباطن فمنازلها في الدماغ وهي قوى الخيال والتفكر والحفظ والتذكر والوهم.

ويفضل الغزالي في معاني تلك الألفاظ فيطلق لفظ النفس على معنيين: الأول: المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان؛ لذلك لا بد من مجاهدة النفس وكسرها استنادًا لقول الرسول ﷺ: «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك».

والثاني: هي اللطيفة بالربانية التي هي الإنسان بالحقيقة وهي نفس الإنسان ذاته؛ وتوصف بأوصاف حسب اختلاف أحوالها، فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة، وإذا لم يتم سكونها إلا أنها أصبحت مدافعة ومعترضة من النفس الشهوانية سميت النفس اللوامة، أما إذا تخلت عن الاعتراض وانساقت وراء الشهوات ووساوس الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء، وقال تعالى في وصف أحوال النفس: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر: 27–28) وقال تعالى: {ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف 53).

ويطلق الغزالي لفظ «القلب» على معنيين الحسي والمعنوي: أحدهما: «اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر... ويشترك الإنسان الحي والميت والبهائم في هذا القلب، والثاني: هو لطيفة ربانية روحانيةٌ تَعْلَق بِهذَا القلبِ الجسماني، وتلك اللطيفة حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب.

ويطلق الغزالي لفظ «الروح» على معنيين أيضًا أحدهما: أنها جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروض والضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريان البدن، وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت. والثاني: هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان؛ والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل هذا المعنى، ووضح الغزالي أن الروح هي حقيقة جوهر الإنسان وغيرها غريب منها، وعارية عند الإنسان، ومعرفة الروح صعبة جدًا لأنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لقوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلًا} (الإسراء 85).

ويطلق الغزالي لفظ العقل على معنيين أحدهما: أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب، والثاني: أنه يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب. وبالنسبة لطبيعة الإنسان فمن المعلوم أنه مجبول بطبيعته على التوحيد فقد خلق الله الناس مفطورين على الاعتراف بروبيته وحده وأودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وفي هذا إشارة لتشريف وتكريم الله للإنسان مما جعله أهلًا لحملة الأمانة والرسالة.

 

نظرة الغزالي للمعرفة

يبني الغزالي نظرته للمعرفة على نظرته للكون والإنسان؛ فهو يعتقد أن قلب الإنسان هو وعاء المعرفة ولكن الذي يمنعه عن إدراك هذه العلوم هي الحُجَب التي تحول بينه وبينها.

ولاكتساب المعرفة طريقين:

  1. التعليم الإنساني: أي العقل والحواس والخبرة الإنسانية.
  2. التعليم الرباني: أي الوحي والإلهام، والعقل والحواس والخبرة هي الطريق إلى معرفة عالم الملك، أما الوحي والإلهام فهما الطريق إلى معرفة عالم الملكوت، والمعرفة الحقة هي التي توجد في عالم الملكوت.

كما رأى الغزالي أن المعرفة نسبية، وأنها تستند إلى الأمثلة المألوفة الملموسة، وأنها فوق العقل إذ ليس من الضروري أن تكون كل الحقائق يؤديها العقل، فهناك من الحقائق مع يعجز عن الوصول إليها.

أو بعبارة أخرى العقل والحواس والخبرة الإنسانية من جهة والوحي والإلهام من جهة أخرى، فالعقل والحواس وخبرة الإنسان هي الطريق إلى معرفة عالم الملك، أما الوحي والإلهام فهما الطريق إلى معرفة عالم الملكوت، والمعرفة الحقة هي التي توجد في عالم الملكوت.

أما الطريق الموصل إلى تحصيل العلوم فهو على وجهين:

  1. التحصيل الخارجي؛ بواسطة المعلم وهو التعليم الإنساني المكتسب.
  2. التحصيل الداخلي؛ وهو ما يحصل بالتفكر والإلقاء في الروع وهو التعليم الرباني.

وعليه فإن مصادر المعرفة هي العقل والقلب، ولا يمكن الاعتماد على العقل وحده كطريق إلى المعرفة بدون القلب، فالعقل هو الطريق الموصل إلى عالم المحسوسات الذي نعيش فيه، أما القلب فهو الطريق الموصل إلى عالم الملكوت.

ويتضح هنا أن الغزالي يضيف مصدرًا آخر من مصادر المعرفة وهو الإلهام وفي ذلك يقول الغزالي: «اعلم أن العلم اللدني وهو سريان دور الإلهام، يكون بعد التسوية كما قال تعالى: {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا} (الشمس: 7)، وهذا الرجوع يكون بثلاثة أوجه؛ أحدها: تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها، والثاني: الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة والإخلاص لله، والثالث: التفكر؛ فإن النفس إذا تعلمت وارتضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط التفكر ينفتح عليها باب الغيب وكما قيل «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة».

 

الأخلاق عند الغزالي

يقوم علم الأخلاق عند الغزالي على روح إسلامية صوفية، فهو علم معاملة لا مكاشفة بمعنى أنه يبحث في الأعمال وفيما ينبغي على المرء أن يفعله ليكون سلوكه موافقًا لروح الشريعة، وإمارات حسن الخلق في نظر الغزالي هي التي تتفق مع ما ورد في القرآن الكريم، وقد نظر الغزالي إلى الفضيلة على أنها حالة التوسط والاعتدال بين رذيلتين، وحدين متقابلين تطبيقًا للمبدأ القرآن خير الأمور الوسط، فاعتدل الغضب «الشجاعة» توسطًا بين التهور والجبن، ويقرر الغزالي أن الوسيلة إلى الأخلاق الحسنة هي التخلق: أي تعويد النفس على الخلق الحسن، ويقول الغزالي: «إن كل ذي بصيرة نافذة يرى عيوبه، ويسهل عليه علاجها، ويصلحها إذا رأى فيها اعوجاجًا، ويكون علاج عيوب النفس بمجاهدتها وتعويدها على فعل الضد؛ فالبخل مثلًا يعالج بالسخاء والجهل بالتعليم والتكبر بالتواضع، والشراهة بالصوم... وهكذا. يقول الغزالي: «إن الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه. فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه كل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم والوالي له». ويشير الغزالي إلى أمرين مهمين في عملية تقويم الأخلاق وهما:

  • ألا يقصد المربي بتقويم الأخلاق استئصال شهوات النفس فذلك أمر يتعارض مع الفطرة الإنسانية وقوانين الخليقة، ولكن المطلوب ضبط الشهوة بالمجاهدة.
  • أن معالجة الأخلاق الرديئة يجب أن يتم وفق نظام يراعى فيه السبق في الوجود ونسبة الممارسة، لأن أقدم القوى وجودًا وأكثرها ممارسة تكون أصعبها تغييرًا ومعالجة.

ويرى الغزالي أن اكتساب الأخلاق الحسنة فيما لو لم يكن ذلك موجودًا في الطبع أو الفطرة لا بد وأن يكون عن طريق الاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق وربما يحصل بالتعلم.

 

مفهوم التربية عند الإمام الغزالي

يبني الغزالي مفهومه للتربية على معاني التربية الأخلاقية والسلوكية بما فيها من تخلية وتحلية، فهي معبرة عن تهذيب الإنسان وتعليمه وإصلاح شؤونه وتدبيرها. فلخص الغزالي- رحمه الله- التربية في قوله: «فاعلم أنه ينبغي للسالك من شيخٍ مرشدٍ مربٍ؛ ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته ويجعل مكانها خلقًا حسنًا، ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليَحسُن نباته ويكمل ريعه. ولا بد للسالك من شيخ يربيه ويرشده إلى سبيل الله تعالى، لأن الله أرسل للعباد رسولًا للإرشاد إلى سبيله، فإذا ارتحل ﷺ فقد خلف الخلفاء مكانه، حتى يرشدوا لله تعالى». ويلخص الغزالي التربية والتعليم في عنصرين وهما: التخلية والتحلية؛ حيث اعتبر المعلم شيخًا ومرشدًا، ومربيًا لكي يخرج الأخلاق السيئة وهي (التخلية) ويجعل مكانها خلقًا حسنًا وهي (التحلية)، وكأن الغزالي يعتبر الخلق اسمًا جامعًا لكل الفضائل التي يجب أن يتحلي بها الإنسان سواء كانت علومًا يتعلمها، أو سلوكيات يروض نفسه عليها، وهذا يتضح من استخدامه لمصطلح التهذيب في كتابه الإحياء حين قال: «وإن كان قصدك فيه (يعني طلب العلم) إحياء شريعة النبي ﷺ وتهذيب أخلاق، وكسر النفس الأمارة بالسوء، فطوبى لك ثم طوبى لك». وورد في قوله عن العلم والعمل: «فكذا لو قرأ رجل مائة مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها، لا تفيده إلا بالعمل».

 

المنهاج التعليمي عند الغزالي

المنهاج عند الغزالي بناء متكامل، تتكامل فيه العلوم الدينية والمهن الدنيوية، فإذا اشتغل المتعلم بالعلوم المادية والنظرية مثل علم الكلام والخلاف والمنطق والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض... واقتصر عليها دون علوم الدين فإنه يضيع عمره فيما لا ينفعه في الآخرة. ومن يقتصر على علوم الدين وحدها لا يفهم في الدين إلا قشوره بل خيالاته وأمثلته دون حقيقته، فلا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة والشرعية كالغذاء. وهذا التكامل لا يعني التخصص في جميع ميادين المنهاج، وإنما معناه أن يتزود المتعلم بثقافة عامة تمده بتكامل معرفي، لأن العلوم مرتبطة ببعضها، ثم يتبحر في علم معين.

والمقياس الذي يميز علمًا من آخر يتقرر بشيئين: ثمرة العلم، ووثاقة دلالته؛ فمثلًا علم الدين ثمرته الحياة الأبدية التي لا آخر لها. وعلم الطب ثمرته حياة البدن حتى الموت ولذا فعلم الدين أشرف منه. والمنهاج عند الغزالي واسع يغطي مختلف جوانب المعرفة والمهن، لقد بني الغزالي منهجه الدراسي بوحي من روح الإسلام وتعاليمه درءًا للضرر الذي قد يلحق بالفطرة التي فطر عليها الإنسان والغزالي بذلك إنما يريد القرب من الله تعالى لأن «كمال الآدمي في قربه من الله تعالى وقربه بالصفات لا بالمكان وإنما يقرب بصفة العالم، فما دام علمه أكمل وأكثر فهو من الله أقرب وبملائكته أشبه».

يأخذ الغزالي في منهجه بعين الاعتبار الفروق الفردية بين التلاميذ على ضوء استعداداتهم وقدراتهم، غير غافل عن مراعاة مبدأ التدرج والترابط بين مواد المنهج وأوجه نشاطه المختلفة.

ولقد جاء منهج الغزالي ليعكس مبدأ إلزامية التعليم انسجامًا مع قول الرسول ﷺ: «طلب العلم فريضة على كل مسلم». لذلك كان من الطبيعي أن يرى في بعض العلوم فرض عين وفي بعضها الآخر فرض كفاية.

حيث يرى الغزالي أن العلم الذي يعتبر فرض عين معناه العلم بكيفية العمل الواجب فمن علم العمل الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين، وتعلم هذا العلم لا يكون دفعة واحدة وإنما بالتدرج. ويعكس رأي الغزالي قناعته بأن فروض العين هي علوم الدين التي يجب على كل مسلم معرفتها سواء أكان ذلك فعلًا أم تركًا أم اعتقادًا.

كما يعتبر الغزالي أن فرض الكفاية هو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان؛ كالحساب، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها سبب حرج لأهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين.

وتنقسم علوم فرض الكفاية إلى قسمين: شرعية وغير شرعية؛ والعلوم الشرعية وهي التي اعتبرها الغزالي محمودة قليلها وكثيرها، ويقيد الغزالي الشرعية منها بما استفيد من معارف على أيدي الأنبياء صلوات الله عليهم وهذه العلوم يقسمها إلى أربعة ضروب:

الأصول: القرآن، السنة، إجماع الأمة، آثار الصحابة.

الفروع: ومنها ما يتعلق بمصالح الدنيا، ومنا ما يتعلق بمصالح الآخرة.

المقدمات: مثل علم النحو.

المتممات: وهي نوعان: نوع متعلق بالقرآن ونوع متعلق بالأخبار والآثار.

العلوم المحمودة: هي تلك العلوم المتفرعة عن فروض الكفاية.

العلوم المباحة: هي العلم بالأشعار وتواريخ الأخبار وما يجري مجراها.

علوم يُحمَد منها قدر معين ويذم التعمق فيها: وهي التي تتسبب في ارتباك الناس وتشككهم مثل الفلسفة.

العلوم المذمومة قليلها وكثيرها: وهي كعلم السحر والطلسمات وعلم الشعوذة والتلبيسات، إضافة إلى بعض فروع الفلسفة التي اعتبرت بدعة أو كفرًا.

وبناء عليه فقد قسم الغزالي الفلسفة إلى ستة علوم هي: الرياضة – المنطقيات – الطبيعيات – الإلهيات – السياسيات – الخلقيات.

كما لخص الغزالي ميادين المنهاج من منطلق قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُمْ ويُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) إلى أربعة ميادين:

  1. بناء العقيدة الإسلامية.
  2. ميدان التزكية: وهي عملية تربوية تستهدف الارتقاء بالإنسان.
  3. دراسة القرآن الكريم وما اشتمل عليه من أنظمة ومبادئ.
  4. ميدان الإعداد الوظيفي الذي يعبر عنه في القرآن بالحكمة.

وينصح الغزالي بالبدء بالعلوم الأساسية «القرآن والسنة ثم التفسير وعلوم القرآن» وبعد ذلك الفروع «الفقه ثم أصول الفقه وهكذا».

 

طرق التدريس عند الغزالي

اعتنى الغزالي بالبيئة التي يتم فيها التدريس وطبق الغزالي- رحمه الله- بعض طرق التدريس ونصح بها ومن أشهر هذه الطرق ما يلي:

القدوة: وهي من أهم الطرق على الإطلاق فالمربي يجب أن يكون عاملًا بعلمه، وإلا فلن تكون له مصداقية.

ضرب الأمثال والاستشهاد: وقد استفاد الغزالي من هذه الطريقة، ومن يرجع إلى كتب الغزالي وخاصة (الإحياء) يجد مهارة الغزالي في استخدام هذه الطريقة فقد استخدمها حتى يكون للمعنى وقع في قلب المستمع، ولتقريب المعاني لإفهام الناس، ولتأكيد فكرة يؤمن بها.

القصص: وهنا حذر الغزالي من شطح القصاصين وحدد طريقته في القصص وهي الالتزام بما جاء فيه القرآن الكريم أو ما نهج نهجه بعيدًا عن الكذب، أو ما قد يؤدي إلى اللبس وسوء الفهم.

العادة في اكتساب الأخلاق الحسنة والتخلص من العادات السيئة.

الممارسة والعمل: وقد أكد الغزالي في مواضع كثيرة في كتبه على أهمية الممارسة والعمل فقال: «لو قرآ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها ولم يعمل بها، لا تفيده إلا بالعمل».

المساءلة والمناقشة والحوار: تمكن الغزالي من توظيف هذا الأسلوب لخدمة أهدافه التربوية والمتتبع لكتاباته يلحظ مدى عنايته بها فقد كانت السبب في كتابة كثير من رسائله وخاصة رسالة «أيها الولد» التي كانت ردًا على تساؤلات تلميذه.

العظة والنصح: ولقد أدرك الغزالي أهمية هذه الطريقة في رسالته التربوية فالناظر لكتاب الإحياء يجد أنه يقوم في معظمه على الوعظ الهادف إلى بناء الإنسان من جميع الجوانب.

الثواب والعقاب: أباح الغزالي العقوبة، إلا أنه يؤثر الشفقة في تعامله مع المتعلمين حتى وإن كان لا بد من عقوبة فهو يحبذ العقوبة المعنوية أولًا، وفي حال استنفذ المعلم سبله لا يرى مانعًا من إنزال العقوبة بالمتعلم، وأن يكون هدف العقوبة حماية التلاميذ المسالمين من المشاغبين، ويلفت النظر إلى مراعاة ظروف المتعلم البدنية والنفسية والعقلية أثناء عملية العقاب بحيث يكون دون إسراف في الضرب، أو صراحة في التأنيب.

 

المعلم والمتعلم عند الغزالي

يعتبر الغزالي طلب العلم عبادة والتعليم واجبًا وفرضًا، بل أفضل المهن لذلك لخص الغزالي الدستور الخلقي الذي ينبغي على كل من العالم والمتعلم الالتزام بما يعينه على مهمته، فقد رأى الغزالي أن على المعلم الالتزام بالوظائف التالية:

  • أن يكون المعلم شغوفًا بالمتعلمين بمعنى أن يقصد بتعليمهم إنقاذهم من النار.
  • أن يقتدي بالنبي ﷺ فلا يطلب على إفادة العلم أجرًا ولا يقصد جزاءً ولا شكورًا.
  • أن يوالي المعلم النصح للمتعلم ويمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها.
  • ألا يعنف المعلم طالب العلم ولا يزجره بصراحة بل عليه أن يستخدم التعريض ما أمكنه.
  • أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره، أو يخبط عليه عقله اقتداءً بسيد البشر محمد ﷺ.
  • إن المتكفل ببعض العلوم ينبغي ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي لا يدرسها كمعلم اللغة يقبح علم الفقه وهكذا.
  • إن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقي إليه الجلي اللائق به ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقًا وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه.
  • أن يكون المعلم عاملًا بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار أكثر فإذا خالف العمل منع الرشد.

أما وظائف المتعلم من وجهة نظر الغزالي فهي كما يلي:

  • أن يقدم المتعلم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات لأن العلم عبادة القلب وقربة الباطن إلى الله تعالى.
  • أن يقلل المتعلم علائقة من الاشتغال بالدنيا وأن يبعد عن الأهل والوطن.
  • ألا يتكبر على العلم ولا يتآمر على المعلم، بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب الحاذق.
  • أن يجتنب المبتدئ في طلب العلم من الاستماع إلى اختلاف الناس سواء أكان العلم الذي يشرع في تعلمه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة.
  • ألا يدع طالب العلم فنًا من العلوم المحمودة إلا وينظر فيه إلى مقصده وغايته.
  • ألا يخوض في فن من فنون العلم دفعة، بل يراعى الترتيب ويبتدئ بالأهم.
  • أن يعرف المتعلم السبب الذي يدرك به أشرف العلوم وأن ذلك يراد به شيئان: أحدهما شرف الثمرة، والثاني وثاقة الدليل وقوته.
  • أن يكون قصد المتعلم تحلية باطنة وتجميله بالفضيلة ليحصل له القرب من الله سبحانه وتعالى.
  • أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كما يؤثر الرفيع القريب على البعيد والمهم على غيره.

 وبناءً على ما تقدم يلاحظ تركيز الغزالي على العديد من المبادئ التعليمية أهمها ما يلي: تعزيز الاتجاه الأخلاقي قبل تقديم المعلومات، ومراعاة الاستعدادات والفروق الفردية، والتدرج في التعليم، والتشويق، وصحبة المعلم والحضور المدرسي، والممارسة والتطبيق والتفرغ، وتوافر المعلومات والمهارات والانفتاح والتفاعل والتطور والبعد عن الجمود والتقليد.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم