المدرسة الرمضانية هي من المدارس التنافسية الفريدة التي يتربى فيها الإنسان إذا أحسن صناعة التنافس المحمود فيها، لما جمعت بين أروقتها العديد من مشارب التنافس العلمي والخيري والتعبدي، وهو ما يميزها عن غيرها من المدارس في الشهور الأخرى، ولذا كان النداء الرباني: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين:26).
لقد بدى جليًا على كل النفوس المسلمة مدى اهتمامها وحرصها على تغير سلوكها، بل وصهر قلوبها بمظاهر التقوى في شهر رمضان، وهو ما يجعل له العديد من المميزات على النفوس دون غيره من الشهور الأخرى، بل بلغ من فضله أن أبواب الجنة الثمانية تجتمع بين أيامه إذا أقدم كل مسلم على تحقيق ما يتطلبه كل باب من هذه الأبواب في هذا الشهر، مثل: باب الصلاة، وباب الصدقة، وباب الجهاد، وباب الريان، وباب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الذكر، وباب العلم، وباب الحج، وباب الراضين. فلو نظرنا لوجدنا أن المسلم يستطيع أن يدخل من هذه الأبواب بأعماله في شهر رمضان الكريم.
ويعد رمضان وأعماله من الأعمال الربانية التي لا يطلع عليها إلا الله، وعلى رأسها صيام الشهر الذي لا يرى فيه المرء إلا الله سبحانه، وهكذا الصدقة التي يجب أن نحرص عليها خلال الشهر، فيجعلها خبيئة له لا يطلع عليها أحد، بل ونحرص على أن نغرس هذه الصفة في أطفالنا من صغرهم، حتى تنصهر قلوبهم، وتتفاعل عقولهم مع كينونتها الكريمة؛ فيرق قلبهم للفقراء، ويسعى لمساعدة المحتاجين، ويتعلم منها الإيثار على النفس لكل محتاج.
فالصدقة من أشرف الأعمال وأفضلها. حث الله عليها في كتابه العزيز؛ فقال جل مِن قائل: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد:18] وقال: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11]. ولما للصدقة من ثمار عظيمة، فلقد حث عليها المصطفى ﷺ في مواضع كثيرة من سنته، وبيّن أن الصدقة لا تُنقص المال أبدًا، بل تزيده. وإذا كانت الصدقة في رمضان فقد اجتمع لها شرف الزمان، ومن المعلوم أن الأعمال الصالحة في شهر رمضان تتميز عنها في سائر الشهور.
فقد ورد عند الترمذي عن النبي ﷺ حين سئُل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «صدقة في رمضان».
ولعظم الصدقة وجزيل أجرها فقد وضع الله سبحانه لأصحابها بابًا في الجنة لا يدخل منه إلا أهل الصدقة، كما أخبر عن ذلك النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره حيث قال: «ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة».
أثر الصدقة على المجتمع
الصدقة في رمضان ليست الزكاة المفروضة، لكنها زيادة إحسان في هذا الشهر الكريم يفيض بها من كان له فضل مال على من لا مال له، ليستطيع أن يواجه تكاليف الحياة، حيث إنها من الأبواب التي تزيل الفوارق بين الناس، وتشيع المحبة بين جميع الأفراد، لكن الزكاة هي فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كبيرًا وصغيرًا، ذكرًا وأنثى، لا بد أن تخرج في رمضان قبل صلاة عيد الفطر، ولها نصاب معين، وهي غير الصدقة التي لا حدود لها.
والصّدقة ونفع الخلق والإحسان إليهم من أسباب انشراح الصّدر وسعة البال وتحصيل السّعادة؛ ومردُّ ذلك إلى شعور المتصدّق بطاعة الله تعالى وامتثال أمره، والتحرّر من عبودية المال وتقديسه، والقيام بمساعدة الآخرين، وإدخال السّرور عليهم، والسّير في طريق أهل الجود والإحسان، كما أنها وجه من وجوه التّضامن بين الفقراء والأغنياء، ومظهر من مظاهر العيش الكريم لكلّ أفراد المجتمع حيث أنّ الفقير لا يشعر بالفقر، وهناك مَن يمدّ له يد العون، وبذلك يهنأ المجتمع بحياة هادئة تسود بين أفراده، وعلى مختلف طبقاتهم الحبّ والاحترام المتبادل، فلا حقد ولا ضغينة تؤدّي إلى الجريمة.
ومع ذلك يُكره التصدق بالرديء.. بل ينبغي المبادرة عند إخراج الصدقة تقديم ما هو أطيب وأفضل بالذات في الصدقات العينية.. فقد كان بعض السلف الصالح عند إخراج صدقاتهم يحرصون أشد الحرص على إخراج ما هو أجود وأطيب وأحسن؛ تقديرًا لأهمية هذه العبادة الجليلة وعظم فضلها.
أطفالنا والصدقة
إن الموروثات في كل مجتمع تتوارثها الأجيال جيلًا تلو جيلٍ، وهكذا الأخلاق الحميدة تغرس في الأجيال وفق ثقافة المجتمع التي يعيش فيه.
ولذا وجب علينا الحرص على غرس جميع المعاني الإسلامية في نفوس أطفالنا، بل وتعظيم الأمور العبادية خاصة لكونها من ثوابت الدين.
ومن هذه البذور التي يجب أن تغرس في أطفالنا أهمية قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه والأخذ بأحكامه، ويجب تعليم طفلك الصوم تدريجيًا، وليس فقط الصوم عن الطعام والشراب، إنما الصوم عن المحرمات والمعاصي، كذلك تعليم الطفل الصدقات التي لها فضل كبير ويعظم أجرها عند الله سبحانه وتعالى.
تقول إيمان الغامدي- معلمة التربية الإسلامية في إحدى دور تحفيظ القرآن الكريم في الرياض: «عزيزتي الأم: قبل أن تأمري طفلك بفعل شيء، عرفيه ثواب وعظمة هذا الشيء؛ ففضل الصدقة كبير وعظيم، وأخبري طفلك بأن تصدقه سيقيه من النار، حيث قال رسولنا الكريم عليه أفضل صلاة وتسليم: [فاتقوا النار ولو بشق تمرة]، وعلمي طفلك أيضًا أن الصدقة تشفي المريض كما في قول رسولنا الأمين: [دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ]، ومن فضل الصدقة أنها تزيد أموالنا ولا تنقصها، فقد قال رسول الله ﷺ: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]، ومن أهم فضائل الصدقة أن المتصدق سيكون في ظل صدقته يوم القيامة، أي أن الصدقة ستكون مظلة لنا يوم القيامة، وبالطبع عندما تعلمين طفلك فضل الصدقة، سيتشجع كثيرًا لفعلها ولمعرفة أنواع الصدقات.
عزيزتي الأم: انتبهي وأنتِ تشرحين لطفلك أنواع الصدقات، فالصدقة ليست فقط بالمال، إنما بعدة أشياء، وبذلك يستطيع طفلك في كل يوم أن يتصدق، فقط شجعيه على هذا، خاصة في هذا الشهر الكريم، فمثلًا:
- الكلمة الطيبة صدقة: علمي طفلك أنه إذا تحدث بأدب ولسان جميل، تكتب له صدقة بدلًا من قول اللغو والكلام المشين.
- إماطة الأذى عن الطريق صدقة: أخبريه بأن إزالة أي أذى من الطريق قد يكون سببًا في الأذى للغير يعتبر من الصدقات.
- أخبري طفلك بأن الابتسامة في وجه الغير تعتبر من الصدقات.
- الصدقة بالصحة: علمي طفلك أن يتصدق بصحته، فيساعد غيره من كبار السن أو النساء في حمل كل ما أثقل كاهلهم وأتعبهم.
- الصدقة بالمال، وهي تجوز على عدة جهات، منها: الأقارب، المساكين، الفقراء، المرضى، الأيتام، وغيرها من الجهات الخيرية التي تهتم بكبار السن والأيتام والمرضى.
وأهم ما يجب أن تخبريه لطفلك أن الصدقات لا بد أن تكون في الخفاء ولا يعلم عنها أحد ولا يتبعها منّ أو أذى، فلا يخبر هذا وذاك بأنه تصدق هنا وهناك، وكافئيه إذا كان ملتزمًا يوميًا بالتصدق، وصممي له جدولًا عن كل يوم في رمضان ليكتب فيه الأيام التي تصدق فيها، وفي نهاية كل أسبوع بإمكانك تشجيعه بشراء هدية له، وبذلك تشجعي طفلك على ممارسة الصدقة يوميًا في شهر رمضان الكريم.
وبذلك نعمل على نشر ثقافة التكافل في أطفالنا وحب الخير والمسارعة لمعاونة الفقراء والمحتاجين، وهي الصفات التي بدأت تغزوها العنصرية والطبقية الآن؛ لضعف أدوات التربية العملية والقدوة الصالحة هذه الأيام، والتي يجب أن تكون الأسرة حائط صد ضدها.
.