Business

عبده دسوقي يكتب: في ذكرى رحيله.. الطبيب المربي سناء أبو زيد

رحل أستاذنا الدكتور سناء أبو زيد عن دنيانا فجر الخميس 15 من صفر 1429 هجريًا الموافق 21 فبراير 2008م، فكان نموذجَ الرجولة الحقة والعطاء لدعوة الله.

لقد رحل تاركًا في نفوس محبيه ومَن عايشوه معانٍ جليلة كانت لهم نبراسًا على طريق الله، كان مربيًا تجرَّد لدينه ودعوته، وصدق الله فصدقه الله أن توفاه وهو متمسك بشرائع دينه.

لقد أحبَّه الأعداء قبل الأصدقاء، وتربَّى على يديه كثيرٌ من شباب الحركة الإسلامية، وعلَّم كثيرين كيف يكون الصبر على الظالمين، لقد كان رحمه الله نموذجًا راقيًا في حسن الخلق.

عرفته منذ عام 2004م عندما انتقلت من محافظتي كفر الشيخ لأستقر للحياة هنا في الجيزة؛ فعندما التقيتُ معه أول مرة انتابتني رعشة لما سمعته عنه، لكني وجدته خيرًا من ذلك؛ فعندما وقفت أمامه كأنه شعر بما حدث لي فاحتضنني فأزال ما في قلبي من رجفةٍ وأخذ يحادثني ويسأل عن أخباري كأنه صديق قديم بالرغم من فارق السن والمقام بيننا، غير أنه كان يتعامل مع كلِّ من عايشهم بيد حانية وقلب طاهر ونفس زكية.

ورغم كونه جادًّا في معظم الأوقات إلا أنه كان يدير دفة الحديث بشيء من الترويح والمداعبة والقصائد الشعرية فيلطف الجلسة.

ذهب ليشارك أحد إخوانه الشباب حفلَ زفافه في صيف إحدى السنوات، وقبل الصلاة جلس مع بعض الشباب ليستعيد- كما يصف وكان مريض بالقلب- حيوية شبابه، وأخذ يحدِّثهم عن اعتقال الإخوان وتحويلهم إلى المحاكمات العسكرية، ثم قال مداعبًا: «آن الأوان لسناء أبو زيد أن ينعم بهواء عليل ليرطِّب قلبه المريض بعدما حصلت على تكييف مستعمل وركبّته في المنزل».

لحظات وأخذ يبكي ويحادث نفسه:

كيف تهنأ يا سناء بهواء عليل وإخوانك في لظى السجون؟! كيف تنعم وتنام بينما إخوانك على الأرض ينامون؟! كيف تحس بطعم الطعام وإخوانك خلف القضبان معذَّبون؟! كيف تهنأ بذلك؟! ليتني كنت معهم فأنعم بما ينعمون من رضا الرحمن.. ليتني كنت معهم فأنعم بمعنى الأخوة الحقيقية. ولم يصرفه عن هذه المناجاة إلا ما وجده من بكاء الشباب حوله وقدوم العريس إلى المسجد.

غير أن الرجل قد آتاه الله فطنةً؛ فما كادت تمر عدة أيام إلا وقد اعتُقل في لقاءٍ مع الدكتور عصام العريان والأستاذ السيد نزيلي والمهندس نبيل مقبل، وغيرهم من الكرام.

رحمك الله يا أستاذي؛ فما زالت معاني التربية الحقة التي غرستها فينا تتجلَّى أمامنا، لقد افتقدناك حقًّا يا معلم الشباب الخير، فما أشد حاجتنا إلى أمثالك في هذا الزمان الذي قلَّ فيه المربي الحق!

فما زلنا في حاجةٍ إليك معلمي لتربينا على معاني الفهم الصحيح للإسلام، وكيف يكون العمل لدعوة الله؟ فما زلنا في أشد الحاجة إليك معلمي لتعلمنا معنى صفاء القلوب وطهارة النفوس.

فما زلنا في حاجةٍ إليك، غير أننا نحتسبك عند الله العليِّ الجليل.. نحتسبك ونسأل الله أن يرزق دينه رجالاً أمثالك عرفوا معنى التربية الحقة – نحسبك كذلك والله حسيبك.

زاره بعض الإخوة أثناء مرضه في بيته، فأخذ يحدثهم أن كثيرًا من شباب الحركة الإسلامية أصبح يهمل الوقوف بين يدي الله في صلاة الفجر، وأخذ يحثُّهم على تربية الناس، على حب الله والعمل لله، والتجرد في كل شيء لله العليِّ القدير، فإذا حدث ذلك لم يرهبوا ظالمًا ولا طاغيًا. وانتابته انفعاله وأخذ يشدد: «علموا شبابنا كيف يكون الوقوف بين يدي الله في صلاة الفجر؟، وكيف تكون العزة في طاعة الله وحسن التربية والأخلاق؟»، ثم قال لأحدهم: «اكتب عني ذلك»، وأخذ يملي عليه شعرًا قال فيه:

قد أخذ الناس مواقعهم      في صفوف صلاة الفجر

بعض الإخوان قد انقطعوا     راضـين بأوهى العذر

فنهوضًا فورًا أحبابي       والرب عفوٌّ ذو ستر

ودوامًا إنكم القدوة       ترمقـكم أبصار الغَير

أقسمت يمينًا لن تجدوا      في غير الطاعة من خير

رحم الله هذا المربي الذي سقانا معنى التربية بيد حانية.. رحم الله هذا المربي الذي حبَّبنا كثيرًا في دعوة الإخوان المسلمين.

وقد ذكر د/ عصام العريان بعض مواقفه التربوية فقال: «لم يكن أبدًا من أهل الدنيا، عرف طريقه إلى الله منذ نشأته شابًا في طاعة الله، ولزم الاستقامة طوال حياته كما عهدناه واجتهد في أخذ نفسه بالعزائم، فعاش بسيطًا ومات بهدوء، وترك لنا حبًا كبيرًا له في قلوب كل من عرفه أو اقترب منه، وكان أبرز ما يميز أخي سناء بين أقرانه حرصه الشديد على معرفة ما يرضي الله ورسوله».

قبيل زواجه اجتهد في وضع لائحة عصرية لبيت الزوجية مكتوبة يحدد فيها حقوق وواجبات الزوج والزوجة، وكان يحاول بكل قوة الالتزام بما يراه صحيحًا، مثل أن تطعمها مما طعمت، فإذا تناول طعامًا خارج البيت فإما أن يأخذ لزوجته منه أو يمتنع عن تناوله، وفاءً لها.

وفي تعامله مع أولاده كان حريصًا كل الحرص على العدل بينهم في كل شيء حتى إننا اجتهدنا في إقناعه بترك مدة ولو قصيرة بين عقد الزواج لابنته خليدة وبين يوم الزفاف وسبب امتناعه أنه لم يفعل ذلك مع إخوتها الثلاث اللاتي سبقنها في الزواج، ولم يفعل حتى رضين هن بذلك.

كان يحب القرآن الكريم وله مع ألفاظ القرآن شأن مختلف يتوقف عند البيان القرآني ويجتهد في فهم أسرار البيان المعجز وعندما اقتنى تفسير الشيخ الطاهر بن عاشور (التحرير والتنوير) فرح به وجعله فوق رأسه يعود إليه يوميًا بعد صلاة الفجر ليتزود منه وكان لا يباريه أحد في فهم أسرار اللغة العربية وبيان القرآن الكريم.

كان واصلًا لرحمه ولو به مشقة، ولا أنسى كيف تحامل على نفسه في مرضه الأخير رغم إلحاحنا عليه بسبب المرض، وأصر على الذهاب لزيارة شقيقته بإحدى قرى المحلة الكبرى وفاء لها ورغبة في عدم إزعاجها هي وباقي الأهل الذين تواعدوا على اللقاء خشية أن يضطروا إلى الحضور جميعًا إلى القاهرة بسبب غيابه لعذر المرض، وكان بارًا بوالديه رحمهما الله تعالى باقيًا على البر بهما حتى بعد وفاتهما وأوصى أولاده بنفس تلك الوصية.

قال عنه الأستاذ السيد نزيلي– مسئول الإخوان بالجيزة سابقا-: «د. سناء كان قديمًا مع القدماء، وجديدًا مع الجدد، وشابًّا مع الشباب وشيخًا مع الشيوخ، فجاوز الثمانين والتسعين لأنه عاش بنفسه هذه الدعوة».

وقال د. عبد الحميد الغزالي المستشار السياسي لفضيلة المرشد: «لقد فقدت الجماعة أحد قاداتها المخلصين، وأحد رجالاتها الذين نذروا أنفسهم طوال حياتهم للدعوة إلى الله، سائلاً المولى- عز وجل- أن يتغمَّد فقيدنا برحمته، وأن يعوِّض الجماعة عن فقيدها العزيز».

 

على لسان أبناءه وأحبابه

كتب أحد أبناءه العديد من المواقف التربوية ومنها:

كان لأبي رحمه الله همة عجيبة في العبادات خاصة في أيام النفحات فكان يمر علينا يوم وقفة عرفات وهو يقول دعاء يوم عرفة متحمسًا متبسمًا ومشجعًا لنا على أن نردد وراءه دعاء يوم عرفة، وكان يوكل لنا كتابة الدعاء الذي كان يقوله عليه الصلاة والسلام في وقوفه بعرفه على السبورة في منتصف المنزل ليسهل لكل من يمر بالمنزل أن يردد الدعاء، حتى أننا كنا نعد المحشي ونحن ننظر إلى السبورة ونردد الدعاء.

وتقول إحدى بناته:

في الساعة الأخيرة وقت السحر كنت معه وحدي في غرفته بالمستشفى وهو متعب ويتنفس بصعوبة خشيت عليه من الموت وأخذت أبكى وأدعوا ربى وإذا به يعطيني الدرس الأخير في العقيدة والمعاني الراسخة في نفسه رسوخ الجبال ويحدثني رغم ألمه وتعبه ويستجمع كل قوته التي أنهكها المرض وأعياها الرقاد ويقول لي بحزم: «رسول الله قد مات أحب خلق الله إلى الله قد مات لا تجزعي».

ويقول ابنه: «كان أبي الحبيب رحمه الله إذا رأى أحدنا يتحدث ويطيل الحديث في التليفون ينهره»، فكنا نرد: هو أو هي من اتصل يا أبى، فيرد قائلًا: «الجوال ليس للثرثرة.. بل للرسائل وقضاء المصالح» وكان في ذلك نموذجًا وقدوة.. فأنت لا تكاد تسمع التحية والسلام في أول المكالمة حتى تسمع التحية والسلام في آخرها حتى تظن أن النمرة غلط أو أن أحدهم لم يرد!

ويختم حديثه قائلا: «الواجبات أكثر من الأوقات.. فأعن أخيك على الانتفاع بوقته.. وما أضيق أوقاتنا».

وكان لأبى في الانتفاع بوقته ما يدركه أي مرافق له.. فكان حتى صمته ذكرًا.. أو فكرًا.

وكان كثيرًا ما يحدثنا عن قيمة الوقت ويحكى لنا قصصًا في ذلك. ومما أذكره أنه حكى عن أحد الصالحين ممن يؤلفون الكتب إذا زاره أحد في مسألة كان هذا العالم يبرى الأقلام في هذه الأثناء؛ حتى لا يقتطع من وقته خصيصا لمثل ذلك.

ويضيف: كان في الطريق إما يسمع الأخبار أو يسمع ما يحفظ من القرآن أو يشرح لأحدنا شيئًا وهكذا وإذا صمت إما متأملًا أو ذاكرًا. أو يراجع محاضرة سوف يلقيها.

أذكر في آخر اعتقال له وكان قبل وفاته بشهور قليلة أنه حين كان يسلم علينا كان يمنعنا من حضنه الدافئ كي لا يضعف.

ويضيف: كان الابن الأكبر للدكتور سناء في واجب عزاء بإحدى المحافظات، وبعد أداء الواجب ركب سيارته كي يعود، فوجد أحد المعزيين واقفًا وكأنه يتأهب للعودة هو الآخر، فسأله أخي عن مسكنه، فوجده في طريقه، فأركبه معه وهو لم يعرفه من قبل. وفى الطريق بدءا التعارف، أين تسكن ؟، فقال لأخي في فيصل «وقد كنا من قبل من ساكني فيصل» فعرفه أخي بنفسه «خلاد سناء» فأدمع الرجل، وأثنى ما أثنى على أبى الحبيب خيرًا، وقال أول مرة أعرف الدكتور، كان بأن عزم على َالركوب في سيارته منذ ما يزيد على العشر سنوات، وقال لي والدك حديث النبي ﷺ: «من كان له فضل بعير فليعد به على من لا بعير له»، ومن وقتها وأنا أعرفه وأصلى معه. وتمر السنون ويفعل الابن ما فعل الأب مع نفس الرجل.. أبذر لا تعرف من أين ومتى سيحصد أبنائك الخير؟

ويتحدث أحد إخوانه فيقول: «تبقى المواقف الإنسانية لكل أخ مع ذلك الإنسان النبيل سناء أبو زيد- رحمه الله- لا تُنسى، ولعلي أتذكر منها ما كان وقت اعتقالي على خلفية انتخابات مجلس الشورى المصري، فإذا به يمر على أسرتي للاطمئنان عليهم في غيابي، ويقف رحمه الله على الدرج قريبًا من مدخل الشقة احترامًا لخصوصية البيت، واحترامًا لغياب العائل، ووقف داعيًا لهم ويطالبهم أن يؤمنوا على دعائه، وقد اصطحب معه كيسًا من فاكهة البرقوق، وبعد أن غادر المكان تناولت الأسرة البرقوق الذي أحضره الدكتور سناء رحمه الله، وقد قصوا عليّ القصة بعد خروجي من السجن وعودتي للبيت، وقالوا: «والله ما تناولنا برقوقًا في حياتنا أحلى من الذي جاء به الدكتور سناء»، حتى إنني شعرت بحبهم للبرقوق فكنت أشتريه بعد ذلك للأهل فكانوا يقولون: «ولكنه ليس كبرقوق الدكتور سناء»، وحاولت أن أفهم سر برقوق الدكتور سناء، فهو من نفس البرقوق المتداول في الأسواق، فقلت لعله سر الإخلاص، ففاكهة مغموسة بإخلاص صاحبها كان لها ذلك الطعم الزكي الذي لم يتكرر؛ رحمك الله أخًا حبيبًا وأستاذًا كريمًا، وأجزل لأهلك المثوبة والسلوان، وجمعنا الله بك في مستقر رحمته وفسيح جناته.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم