إن المتأمل في أوضاع المسلمين اليوم وما جنحوا إليه من المهانة والذل رغم كثرة عددهم وتعدد مواردهم، يدرك بوضوح ضرورة مراجعة الأمة الإسلامية لتاريخ السلف الصالح في الصدر الأول من الإسلام، عصر القوة والعزة والمجد للإسلام والمسلمين، وبمقارنة بسيطة بين ما عليه المسلمون اليوم من التخلف والاستبداد والتبعية للآخرين في كثير من وسائل الحياة وما لحق بهم من هزائم عسكرية وسياسية، وما كان عليه المسلمون في عصر الراشدين من القوة والعزة يتبدى ضرورة البحث عن أسرار تلك القوة والعزة التي حققها المسلمون في هذا العصر.
إن مصدر قوة المسلمين وهو كتاب الله وسنة رسوله ما زال موجودًا في أيدي المسلمين كما كان موجودًا في عصر الراشدين، وحال المسلمين اليوم كما نرى يتردى من سيء إلى أسوأ، وهذا من شأنه أن يدفع الباحثين المسلمين إلى معرفة: كيف طبق الراشدون مبادئ الإسلام؟ وكيف مارسوا تعاليمه السمحة؟ وكيف اهتدوا بهدي نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؟ الأمر الذي حقق للإسلام والمسلمين في عهدهم من القوة والازدهار والانتشار ما لم يحدث في أي عصر من عصور التاريخ الإسلامي إلى اليوم.
وفى دراسة بعنوان «الجوانب التربوية في حياة الخليفة الراشد أبو بكر الصديق» -2009-، للدكتورة رحاب بنت عبد السلام عبد المؤمن مكي، دارت حول رصد وتحليل الاجتهادات والممارسات التربوية والتعليمية في حياة أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-، باعتبارها التطبيق العملي للتربية الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة، وذلك بغرض التأصيل لهذه الجوانب والممارسات، والاستفادة منها في إثراء العملية التربوية والتعليمية في المجتمع الإسلامي في الوقت الحاضر.
جوانب تربية الشخصية المسلمة
تعتبر الشخصية المسلمة موضوع التربية الإسلامية ومحورها الأساسي لأن الإنسان هو الخليفة في الأرض، ميزه الله بالعقل، وسخر له المخلوقات في الكون، حتى يؤدي مهمته في تعمير الأرض وفق ما أراد الله، ومن ثم فالتربية الإسلامية تستهدف تربية الشخصية المسلمة تربية متكاملة تحقق وظيفة الإنسان كخليفة في الأرض، وقد تجسدت هذه التربية في شخصية المربي الأول رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى وإنما بوحي من الله.
وكانت حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- صورة حية تؤكد فاعلية التربية الإسلامية، فهو نبت هذه التربية وتلميذ المربي الأول صلوات الله وسلامه عليه.
ولعل من الضروري قبل أن نتناول اجتهاد الصديق وممارسته فيما يتعلق بتربية الشخصية المسلمة أن نتعرف على نظرة الإسلام لمكونات الإنسان والتي يتحدد بمقتضاها جوانب وأساليب تربيته.
وللإسلام نظرة واضحة إلى مكونات الإنسان، فآيات القرآن الكريم تبين أن الإنسان في أصل خلقته يتكون من عنصرين أساسيين، أحدهما مادي وهو التراب أو الطين أو الصلصال «الجسم»؛ والآخر معنوي أو غير مادي «الروح». يقول تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} (فاطر: 11)، {إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} (ص: 71-72)، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} (الحجر: 28-29).
أما من حيث الوظائف الإنسانية فالقرآن الكريم وهو يتحدث عن أحوال الإنسان ووظائفه نجد هذين العنصرين «الجسم والروح»، وقد صارا أربعة عناصر: جسم وقلب وعقل وروح، عدا النفس التي يراد بها الذات الإنسانية بعامة بعنصريها المادي والمعنوي.
فالجسم أو الجسد جاءت بشأنه آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة تحث على العناية به والحرص عليه، لأنه من مكونات الإنسان الأساسية، وبتكامله مع العناصر الأخرى يقوم الإنسان بوظائفه التي شرعها له الله، فلا احتقار للجسم ولا إيثار له على غيره من عناصر الإنسان. والقلب مكون أساسي في الطبيعة الإنسانية، وهو أساس الفطرة والعواطف المختلفة كالحب والكراهية، وهو مستقر الهداية والإيمان والعلوم والمعارف والإدارة والضبط، وقد ينحرف إلى الإثم والمعصية.
وأما العقل كمكون من مكونات الإنسان فإن القرآن الكريم قد احتفي به لا كذات تدل على خلايا حية وإنما بالوظائف التي يؤديها وفي مقدمتها إدراك المسئولية وتحمل أعباء التكاليف، ولذلك عرضه القرآن الكريم في آياته بصورة عملية وظيفية تكشف عن أثره في الشخصية الإنسانية التي ميزها الله بخاصية التكليف، ومن ثم كان ارتباط الإيمان به ارتباطًا وثيقًا في العقيدة الإسلامية، حيث يدعو القرآن إلى استخدام العقل للوصول إلى الإيمان بالله والتمسك بمنهجه عقيدة وشريعة، وينعي على قوم لا يستخدمون عقولهم للوصول إلى الإيمان والعلم ويصفهم بأنهم كالأنعام أو أضل سبيلًا. وأما الروح كمكون من مكونات الإنسان فقد استعملها القرآن للدلالة على السر الإلهي الذي يودعه الله تعالى في جسم الإنسان فيصير به بشرًا سويًا، ولا يعلم أحد حقيقتها لأن القرآن ذكرها كسر إلهي يتكامل مع المكونات الأخرى للإنسان ليؤدي المهام التي كلفه الله بها.
وقد اهتم الإسلام بالتكامل والتوازن بين مكونات الذات الإنسانية، فعمل على تربيتها وتنميتها، فدعا إلى المحافظة على الجسم وتناول الطيب الحلال من الغذاء والشراب وممارسة الرياضة البدنية؛ وحث على تنمية العقل وتربيته بالتأمل والتدبر فيما خلق الله وتفهم آيات القرآن الكريم والاعتماد على البراهين في الاستدلال والإقناع، وعمل على تربية الروح بالعبادة والذكر الدائم لله وقراءة القرآن.
وإذا كان الإنسان كائنًا اجتماعيًا لا يمكن أن يعيش وحده وإنما في جماعة تربط بهم علاقات أخلاقية وسياسية؛ فإن هذا يقتضي أن توجه التربية الإسلامية اهتمامًا بهذه الجوانب في الشخصية المسلمة.
ولعل تربية الشخصية المسلمة كما بدت في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- تعكس وجهة النظر الإسلامية في تصورها للإنسان وما تقتضيه من العناية بتربيته جسميًا وعقليًا وأخلاقيًا وسياسيًا باستخدام أساليب تربوية خاصة.
التربية الجسمية
تبدت عناية أبي بكر- رضي الله عنه- بالتربية الجسمية سواء على مستوى القول أو على مستوى الممارسة والتطبيق في بعض المظاهر الهامة، كالحث على إعطاء الجسم حقه من الغذاء والنظافة والملبس والشهوة، والأخذ بالقواعد الصحية السليمة في المأكل والمشرب، والتداوي من الأمراض، والبعد عن الأماكن الموبوءة والأشخاص القابلين لنقل العدوى، وممارسة الرياضة البدنية بأنواعها المختلفة كالسباحة والرماية وركوب الخيل والمصارعة.
ومن مظاهر عناية الصديق- رضي الله عنه- بالتربية الجسمية الأخذ بقواعد الصحة البدنية وممارسة العادات السليمة في المأكل والمشرب كنظافة الأيدي ونظافة الأواني المستخدمة الطعام وكيفية المحافظة عليه واختيار الثياب الصحية، وبدا ذلك في حياة أبي بكر- رضي الله عنه- في حادث الهجرة، حيث روي عنه أنه وهو في طريقه مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة رأى راعي غنم، فطلب منه أن يجلب له شيئًا من لبن، يقول أبو بكر- رضي الله عنه- فيما رواه البخاري: «فأمرته- أي راعي الغنم- فاعتقل شاة من الغنم، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا؟ ضرب بإحدى كفيه الأخرى، فحلب كثبة من لبن، قد جعلت لرسول الله ﷺ إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله».
ففي هذه الرواية يتضح مراعاة الصديق أبي بكر- رضي الله عنه- لبعض القواعد الصحية السليمة بقدر الظروف التي كانت متاحة له كأمره للغلام أن ينفض ضرع الشاة من الغبار قبل الحلب، وأن ينفض يديه كذلك من الغبار، ووضع خرقة على فم الإداوة- الوعاء- للمحافظة على اللبن، ومحاولة تبريده قبل شربه.
ومن مظاهر اهتمام أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- بالتربية الجسمية عنايته بالرياضة البدنية وحثه على ممارستها لما لها من أثر في قوة الجسم وقدرته على القيام بوظائفه العبادية والجهادية والمعيشية، ومن ألوان الرياضة البدنية التي مارسها الصديق وحث المسلمين على ممارستها السباق بالأقدام والمسابقة بالخيل والسباحة والمصارعة والرماية، فقد روي أن أبا بكر- رضي الله عنه- كان يمارس السباق بالأقدام والمسابقة بالخيل، كما كان فارسًا بالشجاعة وثبات القلب، حتى وصف بأنه أشجع الأمة بعد رسول الله ﷺ.
التربية العقلية
يتبدى اهتمام أبي بكر- رضي الله عنه- بالعقل فيما أثر عنه من الأدلة التي تبين قدره وأنه أصل المرء ودليله وأغنى ما يملك وخير صاحب له، ومن هذه الأدلة له روي عن عائشة أنها قالت: «ما شرب أبو بكر خمرًا في الجاهلية ولا في الإسلام»، وروي عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله ﷺ: أشربت الخمر في الجاهلية؟ فقال أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: «كنت أصون نفسي وأحف مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعًا في عرضه ومروءته»، وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: «إن يكن لك عقل فلك مروءة».
وقد سار أبي بكر- رضي الله عنه- على منهج القرآن العظيم وسنة الرسول الكريم في الدعوة إلى العلم والحث على طلبه، وتبدى ذلك في حرصه على تحصيل العلم وطلبه، وأن من كان يفوته مسألة لم يسأل عنها رسول الله ﷺ يجد أن أخاه قد سأله عنها، فقد روي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال: تمنيت أن أكون سألت رسول الله ﷺ ماذا يُنجينا مما يلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال أبو بكر: قد سألته عن ذلك فقال: «ينجيكم من ذلك أن تقولوا ما أمرت به عمي عند الموت أن يقوله فلم يقله». وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ.
فالصديق أبو بكر- رضي الله عنه- على الرغم من أنه كان ملازمًا لرسول الله ﷺ وكان يتعلم من ممارسته وأقواله على السواء إلا أنه كان علاوة على ذلك يسأل رسول الله ﷺ ويطلب منه أن يعلمه، فكان كما ورد في صحيح البخاري يقول لرسول الله ﷺ «علمني» وكان رسول الله ﷺ يحقق له ما يرجو من طلب العلم.
ومن الوسائل التي استخدمها أبي بكر- رضي الله عنه- لتربية العقل ممارسة الاجتهاد، لأن الاجتهاد بمفهوم الشريعة هو إعمال العقل في النصوص لاستخراج الأحكام فالاجتهاد جهد عقلي في جميع خطواته وأنواعه لاستنباط أحكام تفصيلية مستوحاة من نصوص القرآن والسنة ومن روح الإسلام وأهدافه لمقابلة وقائع الحياة وأحداثها المتجددة.
ونرى في حياة الصديق أبي بكر ما ينم عن إعماله لعقله مجتهدًا، لكنه يعلن أن اجتهاده رأي يحتمل الصواب والخطأ، يقول ابن سيرين: إن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا ولا في السنة أثر فاجتهد رأيه ثم قال: «هذا رأيي فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله».
التربية الأخلاقية
تجسدت التربية الأخلاقية الإسلامية نية وسلوكًا وقولًا وعملًا في شخصية المربي الأول محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي يقرر أهمية الهدف الأخلاقي بقوله: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، ومدحه الله تعالى بما كان عليه من الخلق العظيم فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4)، ومن ثم كان أبي بكر- رضي الله عنه- تلميذ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه اهتمام واضح بالأخلاق والتربية الأخلاقية، وتبدي هذا الاهتمام في عنايته بتربية الشخصية المسلمة على القيم والفضائل وحسن الخلق وضرورة تطابق النية مع السلوك والقول مع الفعل حتى تكون الشخصية المسلمة شخصية خيرة تحقق السعادة لنفسها ولغيرها.
والقيم والفضائل الأخلاقية التي دعا إليها الصديق هي قيم وفضائل الإسلام التي جاءت في القرآن والسنة، حيث يحث الإنسان المسلم على التحلي بالقيم والفضائل الأخلاقية كالصدق والحياء والعفو والصبر وكظم الغيظ، وتجنب أضداد هذه الفضائل وهي الرذائل كالكذب والفجور والانتقام والتهور، فهو يحذر من الكذب ويحث على الصدق فيقول: «إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب للإيمان»، ويدعو إلى الحياء فيقول: «استحيوا من الله فإني لأدخل الخلاء فأقنع رأسي حياء من الله».
ويحث أبو بكر- رضي الله عنه- على الصبر فيقول: «إن المرء المسلم ليمشي في الناس وما عليه خطيئة»، قيل: ولم ذاك يا أبا بكر؟ قال: «بالمصائب والحجر والشوكة والشسع ينقطع»، ويدعو إلى كظم الغيظ عندما يغلط له رجل فيقول أبو رزة: ألا أضرب عنقه؟ فينتهره أبو بكر ويقول: «ما هي لأحد بعد رسول الله ﷺ».
ولما كان مصدر الأخلاق عند أبي بكر هو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فإن القيم التي دعا إليها قيم مطلقة وليست قيم نسبية، لأن الأوامر الإلهية هي مصدر الإلزام الأخلاقي والسلطة المطلقة، ومن ثم فإن الشخصية المسلمة عند أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- مطالبة بالالتزام بالأخلاق والقيم الأخلاقية حتى في الأعمال العسكرية أو الحربية، وهذا ما نص عليه أبو بكر حين خاطب جيش أسامة وهو يودعه قائلًا: «قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله».
ولما كانت التربية الأخلاقية تهتم بغرس المبادئ والمثل الأخلاقية التي تقوم عليها علاقة المسلم أخلاقيًا بغيره، فإن هناك مبادئ أخرى تقوم عليها علاقة المسلم بغيره سواء أكانوا أفرادًا أو جماعات حكامًا أو محكومين، وهو ما تعالجه التربية السياسية.
التربية السياسية
السياسة من المنظور الإسلامي الشامل هي: كل نشاط فكري أو عملي يندرج في إطار السعي لإقامة الدولة الإسلامية إن لم تكن قد وجدت، وكل نشاط فكري أو عملي يتصل بنشاط الدولة الإسلامية إن كانت موجودة ورعاية الشئون العامة للمجتمع المسلم في حالتي وجود الدولة الإسلامية أو عدم وجودها وسواء ما يتعلق منها بالنواحي الداخلية أو ما يتعلق منها بالنواحي الخارجية على أن يكون منطلق هذا النشاط هو الأيدلوجية الإسلامية.
وتعرف التربية السياسية بأنها: العملية التي يمارسها المجتمع أفرادًا أو أحزابًا أو دولة سواء في إطار نظام سياسي مقبول أو في إطار سياسي مرفوض، وذلك بهدف إكساب القيم والمبادئ والاتجاهات التي يؤمن بها المربي والمتصلة بالحياة السياسية وقضاياها الرئيسية كالهوية والانتماء والولاء والقيادة والمشاركة والحريات والواجبات، وذلك عن طريق مختلف الوسائل والطرق والمؤسسات التربوية التثقيفية المتاحة سعيًا وراء الأهداف التي يرسمها الإطار الفكري الذي ينطلق منه المربي.
وفي ضوء تعريف السياسة يمكن القول بأن التربية السياسية كما بدت في حياة أبي بكر هي: اجتهادات أبي بكر وممارساته فيما يتعلق بإكساب أفراد المجتمع المسلم مبادئ الحياة السياسية؛ سعيًا وراء تثبيت دعائم الدولة الإسلامية في ضوء المقومات الأساسية التي جاءت في القرآن والسنة.
ويعد مبحث التربية السياسية من أهم المباحث في حياة أبي بكر، لأن خلافته هي النموذج العملي الذي يستمد منه الممارسات والدعائم التي تقوم عليها التربية السياسية، يقول ضياء الدين الريس: «أما بالنسبة لخلافة الصدر الأول أو خلافة الخلفاء الراشدين فإن أهل السنة جميعًا- وهم الكثرة الغالبية للمسلمين- يرون أن هذه الخلافة الصحيحة الشرعية، ومن ثم فإنهم ينظرون إليها على أنها المثال أو النموذج الذي يستنبط منه القواعد التي قام عليها والأعمال التي نفذها والأسس والمبادئ التي يجب أن يبني عليها نظام الحكم الإسلامي».
ومن ثم فإن هذا المبحث يركز على استخلاص المقومات الأساسية التي قامت عليها التربية السياسية في خلافة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- باعتبارها النموذج العملي للتربية السياسية في الإسلام.
والتربية السياسية كما بدت في حياة أبي بكر تقوم على عدة دعائم أو مقومات أرستها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ﷺ وعزز أبو بكر من نموذجية تطبيقها في فترة خلافته، وهذه الدعائم هي المساواة والعدل والشورى وحقوق المسلم على الحاكم وواجباته.
وقد بدت هذه الدعائم في خطبة الصديق أبي بكر- رضي الله عنه- التي خطبها عقب توليه الخلافة، والتي هي أول خطبة تبين منهج الحكم الإسلامي، وفي هذه الخطبة- كما أوردها ابن هشام- يقول الصديق بعد أن يحمد لله ويثني عليه: «أما بعد، أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله؛ لا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل؛ ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
واضح من هذه الخطبة أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة أفقية لكل منهما حقوق وواجبات يلتزم بها، وليست علاقة رأسية يتلقى فيها المحكوم الأوامر من أعلى، وأن الحكم في الإسلام ليس تسلطًا على الرقاب كما يحدث من البعض الآن، وإنما مشاركة أو نيابة أو وكالة عن المسلمين في رعاية مصالحهم وحراسة الدين.
ولعل من المبادئ الهامة التي قامت عليها خلافة أبي بكر مبدأ الشورى، لأنه يعد من أهم مبادئ الحكم أو سياسة الدنيا في الإسلام، وقد عمل أبي بكر بهذا المبدأ استجابة لقول الله تعالى مخاطبًا رسوله الكريم: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159)، وقوله تعالى في وصف المؤمنين: {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى: 38).
وتعلم أبي بكر من الرسول ﷺ بالممارسة العلمية أن الأمر شورى بين ولي الأمر والرعية، فقد استشارهم في أسرى بدر، وأبدى أبو بكر رأيه بالعفو عنهم وقبول الفداء منهم، وأبدى عمر رأيه بقتلهم، فأخذ رسول الله ﷺ رأي أبو بكر ونزل القرآن برأي عمر.. وغير ذلك كثير من الأمور التي شاور الرسول فيها أصحابه.
ومن ثم كانت إدارة الدولة في حياة أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- تعتمد على الشورى في الحكم والسياسة والحرب والقضاء والفتوى، فكان إذا نزل به الأمر وأعياه أن يجد له حكمًا في القرآن أو السنة جمع رؤوس المسلمين وخيارهم فاستشارهم، فإن جمع أمرهم على رأي أخذ به، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكان إذا أعياه أن يجد في القرآن أو السنة حكم ما نزل به نظر هل كان لأبي بكر فيه رأيًا فإن وجد أخذ به وإلا جمع رؤوس الناس وعلماءهم فاستشارهم فإن اجتمعوا على أمر أخذ به.
وواضح أن التربية السياسية كما بدت في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- وبمعناها العام البسيط هي ممارساته واجتهاداته فيما يتعلق بكيفية ممارسة الحياة السياسية في الدول الإسلامية على أساس من العدل والمساواة والشورى والحرية ومعرفة كل من الحاكم والمحكوم بحقوقه وواجباته في ضوء المقومات الأساسية التي جاءت في القرآن والسنة.
وفوق ما أرسته خلافة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- من دعائم أساسية للتربية السياسية فإن اجتهاداته وممارساته في مجال الحرية السياسية قد هيأت لعملية التربية والتعليم مناخًا رائعًا من الحرية الفكرية وحققت مزيدًا من النشاط والاجتهاد في مجال العلم والفقه.
وإذا كانت تربية الشخصية المسلمة كما بدت في حياة الصديق- رضي الله عنه- تتناول جوانب مختلفة من الشخصية جسمية وعقلية وأخلاقية وسياسية فإن هذه التربية بجوانبها المختلفة تتم بطرق وأساليب متنوعة، نوضحها في أساليبه- رضي الله عنه-.
أساليب تربية الشخصية المسلمة عند أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-
استخدم أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- أساليب تربوية مختلفة، تتكامل لتسهم في تنمية الشخصية المسلمة، فلكل أسلوب من الأساليب أثره في تنمية جانب أو أكثر من جوانب الشخصية، وهذه الأساليب وإن كانت مستوحاة من القرآن الكريم والسنة النبوية إلا أن أهميتها في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- تبدو في صورتها العملية، وكيف حولها في حياته إلى واقع حي ومُمَارَس، ومدى ما حققته من النتائج إيجابية في تربية الشخصية المسلمة ومن هذه الأساليب:
1- التربية بالقدوة:
يعتبر أسلوب القدوة أكثر الأساليب حيوية في مجال التربية الإسلامية، ويستمد هذا الأسلوب حيويته من شخصية رسول الله ﷺ التي جعلها الله قدوة دائمة ومتجددة على مر العصور والأجيال، قال تعالى مخاطبًا المسلمين في كل زمان ومكان: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).
ومن ثم فقد بدت القدوة كأسلوب تربوي في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- في ثلاث جوانب: الجانب الأول هو اقتداؤه بمربيه ومعلمه ﷺ؛ والجانب الثاني إدراك أبي بكر- رضي الله عنه- لأنه موضع الاقتداء من جانب رعيته مما تطلب منه أن يكون قدوة حسنة للناس؛ والجانب الثالث انعكاس الاقتداء به- رضي الله عنه- في حياة الأمة الإسلامية.
ويعد الاقتداء برسول الله ﷺ من أبرز الجوانب في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-، وقد غلب هذا الجانب كسمة مميزة في حياته حتى أن العقاد يجعله مفتاحًا لشخصية الصديق ويصفه بأنه «نموذج الاقتداء في صدر الإسلام غير مدافع».
وتتعدد الأدلة في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- والتي تدل على حسن اقتداءه برسول الله ﷺ، فهو يعلن في أول خلافته أنه متبع لرسول الله ﷺ، وأن اتباعه لرسول الله ﷺ شرط لاتباع رعيته له، فيقول: «إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني».
وعندما يأخذ أبو بكر- رضي الله عنه- في مباشرة مهام الخلافة يؤكد ما أعلن عنه من الاقتداء برسول الله ﷺ، فيقر العمال الذين عينهم رسول الله ﷺ على النواحي، ويبدأ في إنفاذ جيش أسامة، وهو الجيش الذي أمر عليه رسول الله ﷺ أسامة بن زيد ليسير به إلى الشام، وعندما يشير البعض على أبي بكر بإبقاء جيش أسامة بالمدينة لأنها مهددة من المرتدين يرفض أبو بكر قائلًا: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله ﷺ. ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة»، ويصر أبو بكر على إبقاء أسامة على إمارة الجيش كما أمره رسول الله ﷺ، خاصة بعد أن يشير عليه عمر بأن يؤمر على الجيش واحدًا من كبار الصحابة، ويقول لعمر: «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أُؤَمِّر غير أَمِير رسول الله ﷺ، ويضرب أبو بكر من نفسه القدوة فيسير مع جيش أسامة ماشيًا وأسامة راكبًا».
ويمتنع المرتدون عن أداء الزكاة فيعزم أبو بكر على قتالهم، وعندما يقول له عمر بن الخطاب: «كيف تقاتل الناس بعد أن قالوا لا إله إلا الله»، فيقول أبو بكر قولته المشورة التي تبرز القدوة في أجلي مظاهرها: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه».
وهكذا تدل الوقائع والأحداث في حياة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- على اقتدائه برسول الله ﷺ واتباعه لنهجه وسابقته، حتى كان يبر من يبره رسول الله ﷺ، حيث يروي عن أنس- رضي الله عنه- قال: لما قبض النبي ﷺ قال أبو بكر لعمر: انطلق بنا نزور أم أيمن كما كان النبي ﷺ يزورها.
ويؤكد أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- على أهمية القدوة الحسنة والأسوة الصالحة في استمرارية التربية الإسلامية عندما تسأله امرأة من أحمس قائلة: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ فيقول لها: بقاؤكم عليه ما استقامت به أئمتكم، فنقول: وما الأئمة؟ فيقول: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ فتقول: بلى، فيقول: فهم أمثال أولئك يكونون على الناس. ففي هذه الرواية يوضح أبو بكر للمرأة أهمية القدوة الصالحة كأسلوب فعال في التربية الإسلامية، ويستخدم في توضيح ذلك أسلوب تربوي آخر وهو ضرب الأمثال، فعندما تسأله المرأة عن الأئمة الذين يقتدي بهم الناس يضرب لها مثلًا بما كان من رؤساء وأشراف قومها.
ويقدر المسلمون في أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- تأسيه برسول الله ﷺ واتباعه لنهجه فيتأسون بأبي بكر في مأكلهم وملبسهم حتى يتعفف كبار العرب عن التنعم بمالهم عندما يشاهدون ما عليه أبو بكر من اللباس والتواضع والزهد وما هو عليه في نفس الوقت من الهيبة والوقار، ويروي المسعودى أن ذا الكلاع ملك حمير الذي وفد على أبي بكر ومعه ألف عبد دون ما كان معه من عشيرته وعليه التاج والبرد والحلي قد ألقى ما كان عليه، وتَزَيَّا بمثل زي أبي بكر بعد أن شاهد ما عليه أبو بكر من زهد وتواضع، حتى أن ذا الكلاع رؤى يومًا في سوق المدينة وعلى كتفيه جلد شاة، ولما خاطبه أهل عشيرته في ذلك قال: «أفأردتم أن أكون ملكًا جبارًا في الإسلام»، يقول المسعودي: وتواضعت الملوك ومن ورد على أبي بكر بعد التكبر وتذللوا بعد التجبر.
ومما يرتبط بالقدوة كأسلوب عملي وفعال في تربية الشخصية المسلمة التربية بالأحداث الجارية وبالممارسة العملية.
2- التربية بالأحداث والممارسة:
من الأساليب الهامة التي استخدمها أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- في تربية الشخصية المسلمة التربية بالأحداث أو بالممارسة، ويقوم هذا الأسلوب على استغلال أبي بكر لبعض الأحداث في حين وقوعها في تربية المسلمين على المبادئ والتعاليم والسنن الإسلامية، لأن الأحداث تثير في النفس حالة من التهيؤ، الأمر الذي يحقق للمغزى التربوي طريقًا في القلوب وقبولًا في النفس، ويروي في ذلك عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه «سجد حين فتح اليمامة»؛ ليعلم المسلمين الشكر في موطنه عند دفع نقمة أو تجدد نعمة.
3- التربية بالترغيب والترهيب:
من الأساليب الهامة في تربية الشخصية المسلمة التربية بالترغيب والترهيب؛ الترغيب في الجنة والترهيب من النار، الترغيب في صالح الأعمال والترهيب من سيئها، وقد استوحى أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- أسلوب الترغيب والترهيب كأسلوب تربوي من آيات القرآن الكريم، وحث أبو بكر المربين على استخدامه، فقال: «ألم تر أن الله ذكر آية الرخاء عند آية الشدة وآية الشدة عند آية الرخاء؛ ليكون المؤمن راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله غير الحق ولا يلقى بيده إلى التهلكة».
وخطب أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فقال: «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله، أن تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90).
وأوصى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عندما كتب له عهد استخلافه فقال: «إن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت أني أخاف أن لا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليه أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء، ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله»، وفي رواية يقول: «إن الله عز وجل ذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغبًا راهبًا فلا يتمنى على الله غير الحق ولا يلقي بيده إلى التهلكة».
واضح مما سبق بيان أن أبو بكر- رضي الله عنه- لأهمية الترغيب والترهيب كأسلوب تربوي فعال في تنمية شخصية المسلم، لأن الله تعالى ذكر آية الرخاء عند آية الشدة والعكس، وذكر أهل الجنة بصالح أعمالهم وأهل النار بأسوأ أعمالهم حتى يكون المسلم راغبًا راهبًا فيجد في العمل بأمل ودون يأس أو قنوط.
.