أنزل اللهُ كتابَه الحكيمَ هدايةً للعالمين، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى والْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)، وجعله في صدور العالمين {بَلْ هُوَ آيات بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} (العنكبوت: 49)، وتَكَفَّلَ- سبحانه- بحفظهم {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
بَلَّغَهُ نبيَّهُ الكريم الأمين بالتلقين والبيان، قال تعالى: {وقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} (الإسراء: 106)، وما زال كتاب الله يُتلى غضًّا طريًّا كما أنُزل، يتلقاه جيلٌ عن جيلٍ، تختلف فيه مناهج التلقين وتتحد فيه الأهداف.
ومع التطور العلمي والتوسع في العلوم الشرعية والتطبيقية بجانبي العلوم التربوية، كانت هناك حاجةٌ ملحةٌ لبيان المنهج التربوي في تعليم الصغار القرآن الكريم وعلومه، يعنى بالتلاوة والتدبر مع التربية.
وفى دراسة للباحث: سلطان مسفر مبارك الصاعدي، بعنوان: (المنهج التربوي في تعليم القرآن الكريم وعلومه للصغار) -2015-، بيَّن المنهجَ التربوي في تعليم القرآن الكريم وعلومه للصغار، من خلال الوقوف على مفهوم القرآن وعلومه، وبيان معنى المنهج التربوي وأُسُسِه وأساليبه، وتحديد مفهوم الصغار وخصائصهم، ومن ثم التطبيق للمنهج التربوي في تعليم القرآن وعلومه للصغار على سورة الفاتحة نموذجًا.
مفهوم المنهج التربوي
المنهج في اللغة له عدةُ معانٍ، منها: الوُضُوح، فيقال طَرِيقٌ نَهجٌ، أي: بَيِّنٌ واضحٌ، ومنها: الاستقامة، فالنهج: الطريق المستقيم، وعليه فالمنهج الطريق المستقيم الموصل للهدف الذي استبانت معالمُه واتضحت سبلُه.
والتربيةُ لغةً هي:
- الإصلاح: يقول رسول الله ﷺ: «لا يتصدقُ أحدٌ بتمرةٍ من كسبٍ طيِّبٍ، إلا أخذها اللهُ بيمينِه، فيُربِّيها كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو قلوصَه، حتى تكونَ مثلَ الجبلِ، أو أعظم».
- النماء والزيادة: يقول الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ الله وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39)، أي: ليزيد في أموال الناس، فإنه لا يزيد عند الله. وسمي الربا ربا؛ لما فيه من الزيادة على رأس المال.
- النشأة والترعرع: يقول الله تعالى على لسان فرعون مخاطبا موسى عليه السلام: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا ولِيدًا ولَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (الشعراء: 18)، ويقول الله تعالى أيضا: {واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24).
- التزكية: وهي أقرب الكلمات وأدلها على معنى التربية؛ بل تكاد التزكية والتربية تترادفان في إصلاح النفس، وتهذيب الطباع، قال تعالى: {رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 129).
والتربية اصطلاحًا عرَّفها عدد من العلماء، منهم:
البيضاوي: الرب في الأصل بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا.
الأصفهاني: الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام.
ابن سينا: وسيلة إعداد الناشئ للدين والدنيا في آن واحد، وتكوينه عقليا وخلقيا، وجعله قادرا على اكتساب صناعة تناسب ميوله وطبيعته وتمكنه من كسب عيشه.
عبد الحميد الزنتاني: عملية تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها روحيا وعقليا ووجدانيا وخلقيا واجتماعيا وجسميا، والقادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية والطبيعية التي يعيش فيها.
خالد الحازمي: تنشئة الإنسان شيئا فشيئا في جميع جوانبه ابتغاء سعادة الدارين، وفق المنهج الإسلامي.
من التعاريف السابقة للمنهج والتربية يمكن القول بأن مصطلح المنهج التربوي في هذا البحث يقصد به: «الطريق الواضح والمستقيم الذي يمكن سلوكه لتحقيق تعليم القرآن الكريم وعلومه للصغار، والذي يهدف لتحسين التلاوة، وتفعيل التدبر، وتطبيق التربية».
أسس المنهج التربوي
للمنهج التربوي المراد تطبيقه في تعليم القرآن الكريم وعلومه للصغار أسسٌ من أهمها:
أولًا: مراعاة الفروق الفردية:
الفروق الفردية هي: «الاختلافات بين البشر في الخصائص الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية»؛ وحينما يراعي المعلم والمربي الفروق الفردية فإنه لا يناقض مبدأ العدل، فليس من الصحيح مساواة الطالب النابغة الذكي بالآخر المتدني والمتعثر، لا في أسلوب الشرح، ولا في أسلوب التقييم والمتابعة.
ومن المسلمات التربوية أن البشر كما أنهم متباينون في صفاتهم الخُلُقِية، فإنهم متباينون أيضا في صفاتهم الخِلْقِية والجِسمية والوجدانية النفسية والعقلية، أي: أنهم ليسوا على طبقة واحدة كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًا ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32).
وقد راعى ﷺ الفروق الفردية بين أصحابه، فمنهم من نصبه لإمامة الناس في الصلاة، ومنهم من جعله قائدا في الغزوات، وقد جاء عنه ﷺ أنه قال: «أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أبو بكرٍ، وأَشَدُّهُمْ في أَمْرِ اللهِ عمرُ، وأَصْدَقُهُمْ حَياءً عثمانُ، وأَقْرَؤُهُمْ لِكتابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كعبٍ، وأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وأعلمُهُمْ بِالحَلالِ والحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، ألا وإِنَّ لِكلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وإِنَّ أَمِينَ هذه الأُمَّةِ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاح».
ومن صور مراعاة الفروق الفردية:
- التدرج في أسلوب البناء والوقاية والعلاج.
- البدء بالسهل قبل الصعب، وبالواضح قبل المعقد.
- اختيار الوسيلة المناسبة لكل فرد أو مجموعة.
ثانيًا: التدرج:
يقصد بالتدرج: «الارتقاء التصاعدي في إكساب الفرد معالي الأمور»، وفي تعليم القرآن وعلومه، والتدرج أسلوب رباني ونبوي، وأوضح مثال لذلك: نزول القرآن منجما، وأمره تعالى لنبيه بالقراءة على مهل، قال تعالى: {وقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} (الإسراء: 106)، وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ ولا تَعْجَلْ بِالقرآن مِن قَبْلِ أن يُقْضَى إلَيْكَ وحْيُهُ وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، وقال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16).
وكذلك يتضح التدرج في تحريم الخمر، فإن الخمر لم تحرم في وقت واحد بأمر واحد لما ألفه الناس في ذلك الوقت من شربها، بل تدرج بالتحريم من التلميح إلى المقارنة، وانتهاءً بالنهي، فثابت النفوس وأذعنت وانتهت.
فمن التلميح قوله تعالى: {ومِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ والأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا أن فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل: 67)، ومن المقارنة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: 219)، فقارنت الآية بين منافع الخمر فيما يصدر عن شربها من طرب ونشوة، أو يترتب على الاتجار بها من ربح، ومضارها من إثم تعاطيها، وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم وفساد في العقل، وضياع للمال وإثارة لبواعث الفجور والعصيان، ونفرت الآية منها بترجيح المضار على المنافع.
ثم جاء النهي الإلهي عن الخمر في قوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90)، فكان هذا تحريمًا قاطعًا للخمر.
وقد كان رسول ﷺ أحرص الناس على مراعاة الفروق الفردية والتدرج في التعامل والتوجيه ويتضح ذلك من وصيته ﷺ لمعاذ رضى الله عنه لما بعثه إلى اليمن فعن ابن عباس رضى الله عنه: أن رسول الله ﷺ لما بعث معاذا إلى اليمن قال: «إنَّك تأتي قومًا مِن أهلِ الكتابِ فليكُنْ أولَّ ما تدعوهم إليه شهادةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، فإن أجابوكَ لذلك فأَعلِمْهم أنَّ اللهَ افتَرَض عليهِم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فإنْ هم أجابوكَ لذلك فأَعلِمْهم أنَّ اللهَ افتَرَض عليهِم صدَقَةً تؤخَذُ من أغنيائِهم فتُرَدُّ على فُقَرائِهِم».
ثالثًا: الثواب والعقاب:
وهو أسلوب نبوي وقرآني يتمثل في إثابة المحسن على أفعاله، ومعاقبة المسيء على أفعاله، قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيَادَةٌ ولا يَرْهَقُ وجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس: 26)، وقال في حق المسيء: {والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس: 27).
وقيمة هذا الأسلوب التربوي يتحقق من خلال التعامل الإيجابي الفاعل في التطبيق المثمر، وهنا بعض الملاحظات على التطبيقات التربوية لأسلوب الثواب والعقاب:
- العدالة والنزاهة في التطبيق للثواب والعقاب.
- أثر الثواب عادة أقوى من أثر العقاب.
- عدم الإسراف في الثواب والعقاب حتى لا تفقد قيمتهما التربوية.
- التأكيد على الإخلاص في العمل، لا لأجل التطلع للثواب أو الخوف من العقاب.
- تجنب الأخلاقيات السيئة التي قد تنشئ من هذا الأسلوب كالحسد والحقد.
- مراعاة تناسب الثواب والعقاب على قدر السلوك الدافع للثواب والعقاب.
- التوازن في استخدام هذا الأسلوب وعدم الإسراف.
- الرحمة والرفق في تطبيق العقاب وتجنب الضرب المبرح والحرمان المضر.
- التنوع في الثواب والعقاب حتى لا يمل أو يحصل التعود عليهما، فلا تنفع.
- بيان الأسباب الداعية للثواب والعقاب.
أساليب المنهج التربوي
1- القصة:
القصة فن أدبي إنساني تتخذ من النثر أسلوبا لها، تدور حول أحداث معينة يقوم بها أشخاص في زمان ما ومكان ما، في بناء فني متكامل يهدف إلى بناء الشخصية المتكاملة.
وتتميز القصة بالعديد من المزايا من أهمها:
- بساطة الأسلوب وعدم تعقيده.
- قدرتها على شد الانتباه دون توان أو تراخ.
- تأثيرها في العواطف.
- الربط نفسيا بالموقف، فتجدهم يسعدون لسعادته ويحزنون لحزنه.
- الإقناع الفكري المباشر وغير المباشر.
2- ضرب الأمثال:
المثل: الشبه؛ كما يقال: فلان مثل أخيه، أي: شبهه، ويتفق معه في أمور مشتركة بينهما؛ وهو أسلوب قرآني ونبوي، قال تعالى: {يَا أيهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73).
وعن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ مِن الشَّجرِ شجرةً لا يسقُطُ ورقُها، وإنَّها مِثلُ المسلمِ، فحدِّثوني ما هي؟ فوقَع النَّاسُ في شجرِ البوادي قال عبدُ اللهِ: وقَع في نفسي أنَّها النَّخلةُ فاستحيَيْتُ ثمَّ قالوا: حدِّثْنا ما هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: «هي النَّخلةُ»، فذكَرْتُ ذلك لعمرَ فقال: لَأنْ تكونَ قُلْتَ هي النَّخلةُ أحبُّ إليَّ مِن كذا وكذا».
ويتميز أسلوب ضرب المثل بالميزات التالية:
- تقريب المعاني.
- إثارة الانفعالات وضبطها.
- التدريب على التفكير والقياس والمقارنة.
3- الحوار:
الحوار أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر، عن طريق السؤال والجواب، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف، وهذا التعريف يقيده بالسؤال والجواب، وإن كان هو الغالب لكن الحوار أعم من هذا فهو يطلق على تراجع الكلام والتجاوب فيه بالمخاطبة والرد.
ومن الآداب التي ينبغي مراعاتها في الحوار:
- أن يكون الهدف من الحوار الوصول إلى الحقيقة لا التضليل وحب الانتصار بالباطل.
- يشترط في المتحاورين الإلمام بموضوع المناظرة والتحلي بالهدوء وسعة الصدر.
- تحديد الهدف والموضوع في الحوار.
- احترام الطرف الآخر في المحاورة وإعطاؤه الوقت الكافي للبيان والدفاع.
- الخضوع للحق، والرجوع له، فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل.
4- الموعظة:
الوعظ: «النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل»؛ وقد قال ﷺ: «الدين النصيحة».
ولقد ركز منهج الاسلام في التربية على إثراء جانب المراقبة لله عز وجل في النفس الإنسانية، فقد تضمن القرآن الكريم كثيرا من الآيات المشيرة إلى هذا المعنى، ومن هذه الآيات قوله عز وجل عن لقمان الذي أرشد ابنه إلى هذه المراقبة: {يَا بُنَيَّ إنَّهَا أن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أو فِي السَّمَوَاتِ أو فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أن اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 16)، وقوله تعالى: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ ونَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16)، فحتى الخواطر والخطرات التي ترد على النفس يعلمها الله ويحيط بها.
وهذا الأسلوب يتجه بالمقام الأول للوازع النفسي في النفس البشرية، لذا يقل تأثيره كلما قل الوازع النفسي لدى الإنسان أو زاد؛ لذا نجد أن هذه اللفظة (الموعظة) مرتبطة نوعا ما بالمواعظ الدينية كخطب الجمعة ونحوها.
والنفس البشرية بحكم تقلبها بين الحين والآخر تحتاج للتعاهد بالموعظة، وفي النفس دوافع فطرية في حاجة دائمة للتوجيه والتهذيب، ولا بد في هذا من الموعظة.
وقد تضمنت السنة النبوية كذلك أحاديث تذكر بهذا الجانب المهم، ومن تلك الأحاديث: حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنه، وكان رديف النبي ﷺ على دابة، فقال له ﷺ: «يا غلامُ إني مُعَلِّمُكَ كلماتٍ: احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَكَ، وإذا سألتَ فلتسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يَضروك لم يَضروك إلا بشيٍء قد كتبهُ اللهُ عليك، رُفعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ».
وبهذا الأسلوب القرآني والنبوي يتعلق الولد بالله وحده، ويقطع جميع العلائق دون الله، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يسأل إلا الله، فيحفظ الله في خلواته وعند قوته بتمام الاستقامة على منهجه، فيكون دائم المراقبة في الرخاء والشدة.
ومن أهم العوامل المساعدة على تنمية مراقبة الله عز وجل عند الولد: إشعاره بالانتماء إلى الله ورسوله ﷺ، وأن يكون الوالد قدوة لولده في ذلك، مع التذكير الدائم بالآيات والأحاديث ومواقف السلف الصالح في مراقبة الله عز وجل.
مرحلة الصغار
1- مفهوم مرحلة الصغار:
الصغار جمع (صغر) وهو ضد الكبر، يقال: صغر صغرا، أي: قل حجمه أو سنه فهو صغير، والجمع صغار، وجاء عند ابن فارس: الصاد والغين والراء أصل صحيح يدل على قلة وحقارة.
مصطلحات قريبة:
الأطفال: الصبي يدعى طفلا حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم، وبمثله جاء تعريف الطفولة في المعجم الوسيط حيث عرفها بأنها المرحلة من الميلاد إلى البلوغ.
الغلمان: الطار الشارب والصبي من حين يولد إلى أن يشب ويطلق على الرجل مجازا والخادم؛ والغين واللام والميم أصل صحيح يدل على حداثة وهيج شهوة.
الصبيان: الصبي الصغير دون الغلام أو من لم يفطم بعد، وجاء في لسان العرب: «الصبي من لدن يولد إلى أن يفطم».
2- أهمية مرحلة الصغار:
تعتبر مرحلة الصغار من أهم المراحل العمرية في حياة الإنسان، وفيها تتكون سماته الشخصية والأخلاقية والجسمية، وترسم فيها معالم خطة الحياة المستقبلية بإذن الله، وتتشكل فيه معارفه ومداركه واتجاهاته نحو نفسه ونحو العالم الخارجي.
وهي مرحلة ليست بالقصيرة، بل تمتد لأكثر من عقد من الزمان، ينتقل فيها الفرد من طور إلى طور، طبق عن طبق حتى يكتمل نموه العقلي والروحي والجسمي، ويتأسس فيها للقيام بالأدوار الاجتماعية المختلفة والمتباينة.
وهذه المرحلة مرحلة صفاء ذهن وخلو من المشاغل والهموم، ومرحلة استكشاف للعالم وبناء مواقف واتجاهات، وخوض تجارب واكتساب خبرات، يتحسس فيها الصغير عالمه الكبير بأنامله وحواسه الصغير في الحجم الكبير في المهام والقدرات.
وتظهر في هذه المرحلة بوادر الاستعدادات، وتبرز فيه الملكات، وتصقل فيه المواهب، وتكمن فيه النفس الزكية الصافية من كل كدر يكدرها أو كل عمل يشين لها، فتكون كالورقة البيضاء تقبل التشكيل والتلوين.
وجاء عن الغزالي في إحياء علوم الدين عن هذه المرحلة ما نصه: «وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد به في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه، وكل معلم له ومؤدب».
وهذه المرحلة هي مرحلة الصراع الحقيقي بين الأمم، وهي محط الاستثمار الناجح للدول الراغبة في الازدهار والتقدم، وهي في المقابل نسبة ليست قليلة من عدد السكان في الدول العربية خاصة، وهي أكثر الفئات تضررا من الإهمال وحالات النزاعات وانتشار الأمراض والأوبئة.
3- خصائص مرحلة الصغار:
لكل مرحلة عمرية خصائصها الجسمية والعقلية والنفسية، ومعرفة المعلم والمربي بها أمر ضروري، فما يناسب الكبار لا يناسب بالضرورة الصغار وكذلك العكس، ولعلنا نقف على شيء من خصائص المرحلة العمرية للصغار وطرق الاستفادة منها:
الخصائص
|
توجيهات للاستفادة منها في تعليم القرآن وعلومه
|
يميل للاستكشاف والتجربة
|
تعريضه لمواقف تربوية تستدعي التجربة.
|
يكثر من الأسئلة والاستفسارات
|
الإجابة عن الأسئلة ةعدم التضجر منها.
|
يميل إلى محاكاة الآخرين
|
مراعاة محدودية التكاليف والواجيات
|
له قدراته واستعداداته المحدودة
|
استخدام الوسائل التوضيحية من البيئة المحلية.
|
خياله حاد ومحدود ببيئته
|
استخدام الوسائل التوضيحية من البيئة المحلية.
|
لا يركز لفترة طويلة
|
الاختصار في مدة الدروس واللقاءات العلمية.
|
تبدأ القدرات اللغوية في التطور
|
التأني في طلب الاتقان في الأداء.
|
يسرع في النمو العقلي
|
مراعاة مناسبة المادة العلمية للعمر العقلي.
|
تطبيق المنهج التربوي في تعليم القرآن الكر يم وعلومه للصغار (الفاتحة أنموذجًا)
يعنى هذا الفصل بالتطبيق العملي للقواعد السابقة في العملية التعليمية والتربوية عند تعليم الصغار القرآن الكريم وعلومه، وجاء الفصل مقسم لجانب نظري يعنى فيه ببيان المنهج التربوي المقترح من خلال توضيح مقاصده وأهدافه، وقسم آخر للتطبيق العملي النموذجي على سورة الفاتحة.
أولًا: بيان المنهج التعليمي التربوي المقترح:
يعتمد هذا المنهج التربوي التعليم على ثلاثةاأسس، تشكل بمجموعها المقاصد التربوية للمؤسسات التربوية المهتمة بتعليم القرآن الكريم بمختلف مدارسها واتجاهاتها، ويضم هذا المنهج ثلاثة مقاصد رئيسة، هي كالتالي:
المقصد الأول: التلاوة:
القرآن الكريم أنزل بلسان عربي مبين، نظم اللغة العربية بأصواتها ومخارجها، ولا يستقيم للقارئ تعلم التلاوة الصحيحة من غير دراية بفنون علم التجويد لاختلال النطق عند كثيرين واختلاط العجمة بالفصحى، وهذه الفنون تختلف درجة أهميتها باختلاف المناطق والأشخاص، وتتفق بأنها تقيم اللسان وتصحح المخارج وترعى حسن الأداء من خلال الوقف والابتداء، وتحقق النطق حال اجتماع الحروف وحال الافتراق، ويمكن تقسيمها لثلاثة اقسام: مخارج الحروف، وصفات الحروف، وأحكام تجويدية.
المقصد الثاني: التدبر:
القرآن الكريم معجز في مبناه ومعناه، والعناية بفهم معانيه لا تقل أهمية عن معرفة حروفه وتلاوته، بل إن تدبره والعمل به المقصود الأول من إنزاله، قال تعالى: {كِتَابٌ أنزلنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آياتهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29)، ويمكن لمنهج التدبر أن يمر بثلاث مراحل: معرفة معاني الألفاظ، ومعرفة الأساليب اللغوية، والوقوف على أسباب النزول.
المقصد الثالث: التربية:
وهي مرحلة تعقب التدبر وتستنير بهدى الكتاب العزيز، وتظهر في ثلاثة جوانب:
الجانب الإيماني: وهو حق الخالق على الخلق في المعتقد وما يصرفه له من التعبد.
والجانب الذاتي: والذي يتمثل في سلوك الفرد ومواقفه تجاه نفسه.
والجانب الأخلاقي: يعنى بتعامل الفرد مع غيره من المخلوقين.
وهذه المرحلة هي الحلقة المفقودة في بعض مؤسسات تعليم القرآن الكريم، وهي الحلقة الأهم في التربية على القرآن الكريم، وما أوتي تعليم كتاب الله من غير هذا الطريق، فأصبحت أخطاء وتصرفات حاملي القرآن تنسب للكتاب العزيز ولمدارس تعليم القرآن الكريم.
الملخص للبرنامج التعليمي والتربوي المقترح:
المقاصد
|
تلاوة
|
تدبر
|
تربية
|
الأهداف التفصيلية
|
مخارج الحروف
|
معاني الألفاظ
|
التربية الإيمانية
|
صفات الحروف
|
الأساليب اللغوية
|
التربية الذاتية
|
الأحكام التجويدية
|
أسباب النزول
|
التربية الأخلاقية
|
ثانيًا: التطبيق العملي للمنهج المقترح على سورة الفاتحة:
1- مقدمة في فضل سورة الفاتحة:
جاء عن ابي سعيد بن المعلى رضى الله عنه أنه قال: «كنتُ أصلِّي فدعاني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فلم أُجِبْهُ حتَّى صلَّيتُ فأتَيتُهُ، فقالَ: ما منعَكَ أن تأتيَني؟ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي. قالَ: ألم يقلِ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفالِ: 24)، ثمَّ قالَ: لأُعلِّمنَّكَ أعظمَ سورةٍ في القرآنِ قبلَ أن تخرجَ منَ المسجدِ. قالَ: فأخذَ بيدي، فلمَّا أرادَ أن يخرجَ منَ المسجدِ قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ إنَّكَ قلتَ: لأُعلِّمنَّكَ أعظمَ سورةٍ في القرآنِ. قالَ: نعم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هيَ: السَّبعُ المَثاني والقرآنُ العظيمُ الَّذي أوتيتُهُ».
فهذه السورة أعظم سور القرآن، تكرر كل يوم في أعظم عبادة وهي الصلاة، حملت من المعاني في آياته السبع ما جعلها توصف بأنها القرآن العظيم، وهي جامعة لحمد الله والثناء عليه وتمجيده، قسمها رب البرية بينه وبين عبده، وأعطى عبده ما سأل، ولفضلها تعددت أسماؤها: فهي فاتحة الكتاب، والحمد، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي الصلاة، وأم الكتاب.
وجاء عن أبي هريرة رضى الله عنه سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصفَينِ، فنِصفُها لي ونِصفُها لعبدي ولعبدي ما سَأل، يقولُ العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقولُ اللهُ تعالى: حَمِدَني عَبدي. يقولُ العبدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقولُ اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي. يقولُ العبدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقولُ تعالى: مجَّدَني عبدي. يقولُ العبدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يقولُ اللهُ تعالى: هذه الآيةُ بيني وبين عبدي ولعبدي ما سَأل. يقولُ العبدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} يقولُ اللهُ: فهؤلاءِ لعَبدي ولعَبدي ما سَأل».
2- تعليم التلاوة:
يتم تعليم تلاوة سورة الفاتحة بطريقة الاستماع والمحاكاة، وهي طريقة نبوية تربوية، كما كان يقول ﷺ: «من سرَّه أن يقرأَ القرآنَ رطبًا كما أُنزل فلْيقرأْ قراءةَ ابنِ أمِّ عبدٍ».
وهذه التلاوة يشترط فيها الإتقان، وإن كانت تلاوة مباشرة يتلقاه الطالب من معلمه فهي أفضل، أو يمكن الاستعانة بالتقنية الحديثة وبما توفر من التسجيلات لتلاوة القراء والمجودين.
والأخذ عن المجودين وتقديمهم والوصية بهم هدي نبوي، كما جاء عن مسروق، قال: كنا نأتي عبد الله بن عمرو فنتحدث إليه، فذكرنا يوما عبد الله بن مسعود فقال: ذاك رجلٌ لا أزالُ أُحِبُّه، سَمِعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ: «خُذوا القرآنَ من أربعةٍ: من عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ- فبدَأ به- وسالمٍ مولَى أبي حُذَيفَةَ، ومُعاذِ بنِ جبلٍ، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ».
ولا يخفى على معلم القرآن شروط وآداب القراءة من الطهارة والأدب مع كلام الله والمحافظة على المصاحف المطبوعة، فيعود الطالب عليها من الصغر، وتعزز من خلال المواقف والمحاضرات والتنبيهات.
وأول أركان القراءة الصحيحة: بيان صفات الحروف ومخارجها، وقد حوت الفاتحة على (21) حرفًا من حروف اللغة العربية من أصل ثمانية وعشرين حرفا، فيستطيع المعلم البيان النظري لمخارج الحروف وصفاتها والتطبيق العملي من خلال تلاوة سورة الفاتحة.
ويبين المعلم من خلالها مخارج الحروف وصفاتها، ثم ينتقل المعلم لبيان الأحكام التجويدية في الفاتحة نظريا وعمليا، ويمكن التمثيل ببعض الأحكام التجويدية مع ذكر الشاهد من السورة.
وفي حال تعليم الصغار ينبغي التأكيد على استخدام الوسائل المساعدة للبيان والإيضاح، مثل: الكتب التي تعتني بالصور واستخدام الألوان، وبعض التطبيقات التي تكرر التلاوة مع التأني في القراءة وحسن الأداء.
3- التدبر:
وفي هذا الجانب يتم تعليم الصغار التفسير من معاني الألفاظ والأساليب اللغوية مع بيان أسباب النزول حتى يفهم الصغير عن الله مراده في حدود مداركه وقدرات، وفق المحاور التالية:
أ- معاني الألفاظ:
تتميز سورة الفاتحة بألفاظها السهلة ذات المعاني الواسعة، وقد حوت سورة الفاتحة على (29) كلمة في سبع آيات، يمكن تناول معانيها اللغوية من خلال الحفظ والتذكر، وفق بيان يجمع الكلمات القرآنية ومعانيها، كما في المثال التالي:
الآية
|
الكلمة
|
معناها
|
2
|
{رَبِّ الْعَالَمِينَ}
|
مربيهم ومالكهم ومدبر أمورهم
|
4
|
{يَوْمِ الدِّينِ}
|
يوم الجزاء أو الحساب
|
6
|
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
|
وفقنا للثبات على الطريق الواضح وهو الإسلام
|
مع البيان السابق لمعاني الألفاظ المجردة يمكن استصحاب التفسير المصور للأشياء المحسوسة والانتقال منها إلى الإيمان بالغيبيات، وهو أسلوب قرآني كما في تقرير المعاد والبعث والنشور، كما في سورة الحج قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5)، ليقرر بعدها إحياء الموتى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ} (فاطر: 22).
فجيل اليوم جيل تربى أغلبهم على الصور عبر شاشات الفضائيات والإنترنت والهواتف الذكية، وهي تقنيات يجب استثمارها وعدم إغفالها، ويستعمل التفسير المصور للآيات الكونية كآيات إنزال المطر وإرسال الرياح وتحريك السحاب.
وهذا التفسير متى استحسن استعماله قاد للحقيقة الساطعة وهي أن للكون الظاهر ربًّا يستحق الخضوع والذلة والاستسلام، وهذا ما يمكن أن يسميه علماء العقيدة: توحيد الربوبية يقود إلى توحيد العبادة.
ب- الأساليب اللغوية في الفاتحة:
تشتمل هذه السورة على عدة أساليب لغوية كانت بحق إعجاز في ألفاظه وإعجاز في سياقه، فقد شملت على:
الأسلوب اللغوي
|
الشاهد
|
البيان
|
حسن المطلع والاستهلال
|
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
|
استهلال بالحمد على مستحق الحمد سبحانه.
|
الحذف والاختصار
|
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}
|
حذف صراط من وصف المغضوب عليهم.
|
ذكر الأضداد
|
بيان الحال بذكر الأضداد.
|
النسق الواحد في الفواصل
|
{الدِّينِ} - {نَسْتَعِينُ}
|
النظم البديع باتفاق فواصل الآيات.
|
وهذه الأساليب اللغوية يمكن عرضها بضرب الأمثال عليها والاستدلال عليها بالمأثور عن العرب نثرًا وشعرًا، وأيضا يمكن تقريبها بذكر الشواهد القرآنية المماثلة في السور الأخرى.
ج- أسباب النزول:
القرآن الكريم نزل منجمًا، منه ما نزل ابتداءً، ومنه ما نزل حسب الوقائع والأحداث، وكان مدار سبب النزول على طريقين، الأول: أن تحدث حادثة فينزل القرآن الكريم بشأنها، والثاني: أن يسأل الرسول ﷺ عن شيء فينزل القرآن ببيان الحكم فيه.
معرفة أسباب النزول مما يعين على فهم معاني القرآن الكريم، فمتى ما عرفت وقائع أحداث سبب النزول فُهم المراد، وأمكن استنباط المعاني الجليلة والفوائد المستنيرة، وحفظت العقول عن أن تزيغ في تأويلات فاسدة أو معانٍ غير مرادة.
وطريق معرفة أسباب النزول الرواية والسماع، قال الواحدي: «ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها».
ويمكن في هذا الفن القائم على المأثور من أسباب النزول تدريب الصغار على مهارات التلقي والاستدلال من خلال معرفة أسباب النزول، وتنقيح المصادر والجمع بين الأقوال، ومهارات الجمع والتلخيص، ومهارات التحليل والنقد، مع الاستدلال والتدوين.
4- التربية:
القرآن الكريم كتاب تربية وتزكية، طهر النفوس وربطها بخالقها وفاطرها، وطهرها من دنس الجاهلية وبراثن الشرك، أحيا به الله الأمم بعد موتها، وزكى النفوس بعد أن دساها أصحابها، فكان بحق معجزة خالدة إلى يوم الدين.
وتعليم تلاوة القرآن وتفسيره لا بد أن يتبعه تربية في جوانب شتى، لعل من أهمها وأشملها ثلاثة جوانب: التربية الإيمانية والذاتية والأخلاقية، وتندرج تحت هذه الجوانب كثير من الأجزاء المهمة، والبحث هنا يعرض لبعض الأمثلة على جوانب الثلاث من خلال سورة الفاتحة، وفق البيان التالي:
الجانب التربوي
|
الشاهد
|
البيان
|
التربية الإيمانية
|
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
|
في الآية بيان أن المستحق للعبادة هو الله وحده سبحانه.
|
التربية الذاتية
|
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
|
في هذا الدعاء توطين للفرد على التواضع وطلب الكمال.
|
التربية الأخلاقية
|
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
|
في هذا التخصيص وما سبقه من أدعية بصيغة الجمع توطين للجماعة والمحافظة على الوحدة الدينية.
|
ويمكن أن تتم التربية متزامنا مع التلاوة ويسمى المنهج التكاملي، ويقصد به إعداد الطالب علميا وتربويا وثقافيا في وقت واحد؛ أو تحدد مجموعة سور يكون لها منهج تدبر ومنهج تربوي تابع بعد إتقان التلاوة، وهو ما يسمى بالمنهج التتابعي، ويفضل الباحث المنهج القائم على المهارات، حيث تحدد المهارات المستهدفة والمستلهمة من منهج التلاوة وتبنى عليها الأنشطة التربوية.
.