لقد حوى القرآن الكريم منهاجاً فريداً في إصلاح الأمور والقيام عليها بالرعاية والتنمية، على أحسن وجه وأكمل حالة، فتلك هي التربية الربانية التي هي من صنع الله الذي اتقن كل شيء وهو الذي خلق كل شيء، فهو أعلم بما يصلحه، وهو سبحانه أحق من يرعاه، قال الله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الملك: 14.
وفي هذه الدراسة، يرصد الباحث د. إبراهيم سعيد، أن منهج التربية في القرآن الكريم، ينبثق من كمال هذا الدين ومعجزة هذا الكتاب المجيد، فتربيته تسع كل المجالات، كما أنها باقية وصالحة لكل عصر وجيل، حيث إن إعجاز القرآن الكريم لا ينحصر في ألفاظه ومبانيه، ولكنه يمتد إلى معانيه ومناهجه الحياتية والحيوية.
الجانب التربوي الأخلاقي
حقيقة التربية الأخلاقية في نظر الإسلام، تنشئة الإنسان وتكوينه متكاملاً من الجانب الخلقي، بحيث يصبح مفتاحاً للخير ومغلاقاً للشر في كل الظروف والأحوال.
وهي تستهدف ملكة استعداد النفس لتهذيبها وتنمية نزعات الخير لديها، فهي من الأهمية بمكان، لأنها ترجمة عملية للأخلاق النظرية المتمثلة في الإلزام والمسؤولية والجزاء، ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسؤولية، وإذا عدمت المسؤولية فلا يمكن أن تكون العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى ويفسد النظام.
إن التربية الأخلاقية في نظرة الإسلام تتسم بالعمق والشمول، حيث إنها تتناول جميع الجوانب الإيجابية للتربية المتكاملة، من أهمها تكوين البصيرة عند المرء ليميز بين سلوكي الخير والشر، وتلقي المبادئ التربوية ب" افعل " و "لا تفعل" وتطهير النفس من نوازع الشر وتحذير الغير منها، وتحليها بفضائل الخير، والدلالة إليها.
حقاً إن التربية الأخلاقية أحد الدعائم الأساسية في بناء الفرد المسلم، إذ هي عملية تؤدي إلى بناء فكر وفعل أخلاقي بما حوته من وسائل كفيلة يمكن من خلالها تطبيق دستور الأخلاق في القرآن الكريم، وهذه الوسائل تؤول إلى مجموعتين: وسائل دافعة ووسائل مانعة:
أولاً: الوسائل الدافعة:
وهي الوسائل التي تنمي الاستعداد لفعل الخيرات والمداومة عليها والترقي في مدارج الفضيلة، ومنها:
-
الموعظة: وهي التذكير بالخير فيما يرق له القلب، وتعد الموعظة من أقوى الأساليب وأنجع الوسائل، ولهذا سمّى الله تعالى القرآن الكريم موعظة كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )، وقد استعمل القرآن الكريم الموعظة في السياق التربوي في كثير من المناسبات، ويظهر ذلك جلياً في مواعظ الحكيم لقمان لابنه.
-
الصحبة: لا يخفى ما للصحبة من أثر فاعل في اكتساب الأخلاق سلباً أو إيجاباً، ومسارقة الطبع تؤدي في ذلك دوراً كبيراً. وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم، شاهد حي على ما للصحبة من أهمية في استمداد القرناء بعضهم من بعض الطاقات الأخلاقية.
-
القدوة الحسنة: وهي وسيلة عملية في البناء الخلقي، ولن تصلح التربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، والقرآن الكريم حافل بنماذج حية للشخصيات الأخلاقية الكريمة، للترغيب في أخلاقهم، ومحاكاة الحسن منها، قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) الأنعام: 90.
ثانياً: الوسائل المانعة:
وهي الوسائل التي تحول دون فاعلية الرغبة في الأخلاق السيئة وتعطل الإدارة والاستعداد لفعلها، فهي طرق وقاية وعلاج لما يطرأ على الأخلاق من عوامل الانحراف والانحلال الخلقي الذي يعتري النفس بسبب الهوى أو الشيطان أو غيرهما.
ولا ريب أن تلك الوسائل من الأساليب الناجعة في مجال التربية الأخلاقية، لما لها من سلطة على كبح الجرم الخلقي، وتهذيب السلوك، فإن كان ثمة مُكنة من التوبة من قبل الفاعل، فذلك مقصد أسمى من مقاصد العقوبة في الإسلام مهما كانت ضخامة الذنب، وإن لم يكن فإن العبرة قائمة لمن بعدها.
الجانب التربوي الاجتماعي
جعل الإسلام رابطة الدين الجامعة المعتبرة، ودعا الناس لاتباعها ليكونوا أمة واحدة تجمعها وحدة الاعتقاد والتفكير والعمل الصالح، فأمر بإقامة الدين كما في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، وقد أبان الله تبارك وتعالى أن مراده الاجتماع تحت شريعة الإسلام إذ يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا )، وحبل الله هو الإسلام.
وكما عني الإسلام بتأسيس هذه الجامعة وتسهيل الدخول إليها وتكثير سواد اتباعها، أحاطها بسياج منيع من أن يجد معول الهدم إليها سبيلاً، فجعل لها نظماً تضبط تصرفات الناس في معاملاتهم، وتدابير تذود عنهم أسباب الاختلال وتقيها من الانحلال، وذلك ما سنشير إلى شيء من ملامحه على وجه الإيجاز فيما يلي:
- إرساء قواعد التسامح: قال جل شأنه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقال في صاحب الرسالة وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)، وقال في أصحابه وأتباعه: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
- ترسيخ مفاهيم السلام الاجتماعي: أرسى القرآن الكريم مفاهيم السلام في سور عديدة وآيات كثيرة، حتى أصبح السلام السمة البارزة لهذا الدين ليس في حال السلم فحسب، بل وفي الحرب ومع الأعداء، لأن هذا الدين يحرص على كسب أعدائه ودعوتهم إلى السلم بدلاً من مخاصمتهم، ولأن دين الإسلام جاء لهداية الناس كافة إلى سبيل الله تعالى، فمقصده التآلف ودفع التنازع ونشر السلام في أرجاء العالم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
.