من صفات المربي: القدرة على الوفاء بالعهد

    لقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالوفاء بالعهود في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ( [ المائدة: 1 ]، ) وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ( [ الإسراء: 34 ]، ويقول الأستاذ سيد قطب في الآية الأولى: (إنه لابد من ضوابط للحياة.. حياة المرء مع نفسه وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء.. الناس من الأقربين والأبعدين من الأهل والعشيرة ومن الجماعة والأمة ومن الأصدقاء والأعداء ثم حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به، وهى أساس كل حياة، وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود يعطي كلمة (العقود) معنى أوسع ويكشف عن أن المقصود بالعقود هي كل ضوابط الحياة التي قررها الله، وفي أولها عقد الإيمان بالله ومعرفة حقيقة ألوهيته – سبحانه).

    هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم عليه السلام وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض بشرط وعقد )قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( [البقرة: 38 – 39].

    وقد تكرر هذا العقد – أو هذا العهد – مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم كما ورد في سورة أخرى )وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ( [ الأعراف: 172 – 173 ]. وهذا عقد وعهد مع كل فرد، فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء، ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل كما تبين الآيات في سورة المائدة يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم وكيف نالهم من الله ما ينال كل ما ينقص الميثاق، والذين آمنوا بمحمد r قد تعاقدوا مع الله على يديه تعاقدا عاما حيث قالوا: (بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى أثره علينا وألا ننازع الأمر أهله) وفي بيعة العقبة الثانية كان هناك عقد مع نقباء الأنصار، وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو (بيعة الرضوان).

    وعلى عقد الإيمان بالله والعبودية له تقوم سائر العقود (من الظلال بتصرف).

    وفي آية سورة الإسراء ) وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ( قال الأستاذ سيد رحمه الله: (قد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى من القرآن والحديث، سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس، عهد الفرد وعهد المدرسة وعهد الدولة، أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد، لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة المدرسة (المصدر السابق).

 

    نقض العهود من صفات المنافقين 

    ولقد وردت الآيات في المنافقين تصفهم بنقض العهود وتعيب عليهم هذا السلوك، قال تعالى في سورة الأحزاب: ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ( [ الأحزاب: 15 ] وقد نزلت هذه الآية في المنافقين وكانوا يولون الأدبار ويفرون من الزحف، فعاهدوا الله ورسوله ألا يعودوا لمثله، غير أنهم نقضوا العهد وغدروا بالوعد وعاودهم جبنهم حينما دعوا لمقابلة أعداء الله في غزوة الأحزاب، فعدم الوفاء بالعهد قد يدخل المسلم في دائرة النفاق أعاذنا الله منه، وفي هذا الشأن أحاديث كثيرة هاك بعضها:

    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان) (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم (... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله r قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

    وقال r: (أد الأمانة إلى من ائتمنك). وقال في خطبته في حجة الوداع: (من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها). وقال عز وجل ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ  ([ الأنفال: 27]، فخيانة الأمانة من خصال النفاق.

 

    السنة المطهرة تحثنا على الوفاء بالعهد

    في حديث ابن مسعود من قوله وروي مرفوعا (القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك، فيقول: من أين يا رب؟ وقد ذهبت الدنيا، فيقول: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوى به حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عنقه، فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأى أنه قد خرج منها زلت فهويت فيهوى في أثرها أبد الآبدين.

    وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي r قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)، (متفق عليه).

    والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهد كافرا، ولهذا في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي r: (من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) وفي الآية الكريمة في الوفاء بالعهد بين المؤمنين وغير المؤمنين ).... إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( [ التوبة: 4 ].

 

    نقض عهود المسلمين أشد إثما

    أما عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثما، ومن أعظمها نقضا عهد الإمام على من تابعه ورضي به، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي r قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فذكر منهم: ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفى له، وإلا لم يف له).

    ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر فيها أن يؤدي الطالب الدين في الموعد المحدد وكذلك جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات.

 

    عدم التسرع في إعطاء العهود

    وفي غالب الأحيان قد لا يقصد الطالب أن يخلف وعده، ولكنه قد يعطي العهد ثم بعد فترة من الزمن يعجز عن الوفاء وقد يجد تأويلا، ولذلك يقول صاحب المستخلص في تزكية الأنفس (فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا وذلك من أمارات النفاق)، ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال: إنه خطب إلى ابنتي رجل من قريش وقد كان إليه مني شبه الوعد، فو الله لا ألقى الله بثلث النفاق!، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي.

    ويقول الأستاذ مصطفى موضحا قيمة الوفاء بالعهد في كتابه:

    (إن الوفاء بالعهود من ألزم الأخلاق للمسلمين عموما وللعاملين في المدرسة خصوصا، أكثر إلزاما لمن هم في موقع المسئولية، فهذا الخلق يعكس على جو العمل الثقة والاطمئنان والتعاون والإنتاج، بخلاف عدم الالتزام أو الوفاء بالعهود والوعود خاصة من المسئولين، فإن ذلك يعكس عدم الثقة أو الشك في تنفيذ ما اتفق عليه من أمور، أو عدم الاطمئنان إلى توفير اللازم لإنجاز عمل ما، وبالتالي يتعثر العمل والإنتاج في حقل الدعوة، وإذا سرت روح عدم الوفاء بالعهود بين أفراد المدرسة، سيؤدي ذلك إلى عدم الالتزام بمواعيد الحصص أو المدد المحددة لتنفيذ ما يعهد إليهم القيام به من أعمال.. إلى غير ذلك (من كتاب بين القيادة والجندية، ص 32، دار الدعوة – الإسكندرية).

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم